المقابر الجماعية في معرض فوتوغرافي بلندن

* هاشم تايه

 

خلال المؤتمر العالمي الأوّل للمقابر الجماعيّة في العراق الذي عقد في قاعة بوجستر الشهيرة وسط العاصمة البريطانية لندن أقام الفنان الفوتوغرافي العراقي المقيم حالياً في ألمانيا إحسان الجيزاني معرضاً شخصيّاً للصور الفوتوغرافية بعنوان (المقابر الجماعية). وقد اجتهدت مجموعة أعمال الفنّان في الكشف عن أبعاد تلكم الجريمة وإدانتها في خطاب بَصَريّ موجّه إلى الضمير الإنساني.

وشهدت قاعة المؤتمر أيضاً عرض فلمه الوثائقي (الجذور) الذي يصوّر زيارة قام فيها فوتوغرافي عراقي مغترب إلى أهوار العراق بعدما سمع بأنباء إعادة الحياة إليها، ولكنّه صُدِم بواقع المعاناة التي يعيشها قاطنو الأهوار الذين لم تتغيّر حياتهم عمّا كانت عليه..

وفي نهاية هذا الفلم القصير يهدي الفوتوغرافي المصدوم كاميرته إلى طفلٍ من الأهوار، ليحمل عنه مهمّته، ويواصل ما بدأه.

·      سيناريو فوتوغرافي

لم تكتف عدسة الفوتوغرافي إحسان الجيزانيّ بتوثيق مادتها- المقابر الجماعية- في لقطات جامدة حسب، بل حرصت على تسجيل ما وقعت عليه وإدراجه في سياق سيناريو مؤثر اختار الفنان عناصره الأساسيّة ووضعها في لقطات توالت الواحدة بعد الأخرى لشاخص معيّن – قبر- وكلّ لقطة اجتهدت في أن تضيف إلى سابقتها جديداً من شأنه تعضيد الفكرة وتحريكها قدماً باتجاه اكتمالها مدعومةً بتفاصيل اقترحها الفنّان وأنشأ لها علاقة بعناصر مادته، ممّا نجم عنه تصعيد وتائر تأثيرها في المشاهد. وذلك يعني أن الجيزانيّ يبني موضوعه من خلال تقصّي كلّ ممكناته ويعرضه علينا في لقطات متنوعة تبرز وجوهه المتعددة، أي أنّه يحرص على تنويع رؤيته لما تقع عليه عين آلته تنويعاً يتناغم مع فكرته التي انطبعت في وعيه عنها، وبما يرشح عنه موقف يتبناه الفنان ويكافح من أجل إشهاره... فهو مثلاً بنى تصوّره لقبر أحد ضحايا النظام السّابق واستفرغه في ثلاث لقطات، في لقطة منها نرى القبر من خلال شاهدة عارية وبضعة أحجار، فعمد إلى وضع بندقية فوق موضع الرفات ليعرّفنا بهويّة الدفين، الميّت جسداً، الحيّ قضيّةً، عبر بندقيّة يشهرها قبره، ويتركها إرثاً للقريبين ليواصلوا ما كان اختطّه القتيل لحياته، وكأن الجيزاني لا يكتفي بتصوير ما يظهر على السطح بل يستبطن ما في دخيلة المدفون ويُجسّده بالصور، ولكي يعوّض عن حقيقة استواء القبر بالأرض، واندراسه فيها اختار أن يلتقط صورته من المكان الذي يُظهره على خلفية مرتفع على هيئة هرم أضحى بمثابة صدىً عالٍ من حجارةٍ للقبر، ومعادلاً لسموّ صاحبه.. وفي لقطة أخرى يستقدم الفوتوغرافي الجيزانيّ شابّاً إلى أحد القبور ويُجلسه لصقَهُ، شابّاً بثوب الحِداد يربت بكفّه على حجارة القبر بحنان كما لو أنّه يهدهد صاحبه ليرقد مطمئناً، فها هي بندقيته التي خلّفها تنتصب مشرعة من جديد بيدٍ حيّة... وفي لقطة ثالثة نطالع شاهدتين لقبرين متجاورين بدت إحداهما شاحبة فيما برزت الثانية بسطوع، كأنّما أراد الفوتوغرافي أن يلمّح إلى أن الميّتين قهراً الذين طُوِيَ موتهم عن العيان سنين طوالاً ها هو موتهم اليوم ينشر من جديد.. ولأنّ القبرين الجاريْن هما بمستوى سطح الأرض عمد الفنّان إلى الجلوس وتصويرهما من أسفل، واستطاع بذلك رفعهما جاعلاً السماء الرحبة خلفيّتهما، ومن يرهما فسيظنّ أنّهما على مرتفع عالٍ........

ومن خلال اللقطات الثلاث هذه نتبيّن أن الفوتوغرافي الجيزانيّ واقع تحت ضغط رغبته في التعبير عن فكرته والإفصاح عنها بصورة مباشرة ولهذا يواجه موضوعه من أمام واضعاً إيّاه في مركز صورته عارضاً أعضاءه وتفاصيله في الضوء الطبيعي الباهر بحيث يبدو كلّ شيء فيه واقعاً في النقطة القريبة من خارج الصورة وليس غائراً في أعماقها.. إنّ انصراف الفنّان الجيزاني إلى موضوعه الذي تملّكه ورغبته في تحويله إلى رسالة تتبنّى قضيّة إنسانيّة، بصور دامغة قد جعلا همّه الأساسيّ نقل ذلك الموضوع مشفوعاً بتصوّره الخاص الذي جسّده بما أضافه إليه من عناصر، وكان من نتائج ذلك أنّ ما في أعماله هذه من علاقات وقيم جمالية قد تجلّى بشكل عفويّ، ولهذا فهو حين يتحدّث عن بعض تلكم الأعمال فإنّه يكتفي بنقل فكرته عن موضوعها مهملاً عناصرها الجمالية... 

 

 

 

* كتب الموضوع في صحيفة الوطن

لقراءة الموضوع في صحيفة الوطن يرجى الضغط هنا

تصوير الزميل احسان الجيزاني

الارشيف العراقي في الدنمارك