ذاكرة الطين في أعمال صادق طعمة ..عباس حسن العتابي /فرنسا

 

 

الهوية الوطنية

يمتثل ( جرسي جالري ) في أقبية قصر ( أوسترلي بارك ) في الغرب من لندن، حيث أقام الفنان صادق كريم طعمة معرضاً تصويرياً فنياً بعنوان ( تكريم الماضي ) وقد احتوى على خمسين عملاً، قدم فيها فكرة عن مسيرته الفنية لأكثر من عقدين من الزمن، أعلنت عن شخصيته الفنية، التي تكونت في محاولاته المتنوعة من أجل التمكن من التعبير عن مسألة الهوية الوطنية، كموضوع وأسلوب في عمله الفني، هذه المسألة التي كانت قد حفرت أخدوداً مؤثراً في أنفس أغلب الفنانين العراقيين، أن كانوا في المنفى المهجر أم في المنفى الوطن، إنها أخذت عند الفنان صادق حالة متطرفة في التعبير عن الماضي الحضاري وعن الانتماء للوطن العراق، هي السفر داخل التاريخ من الأعلى إلى الأسفل ومحاولته تقنين هذا التاريخ في إطار واحد، يتضمن مجموع تجربة الإنسان العراقي الفنية، ابتداءً من الزمن الحاضر مروراً بالحضارة العربية الإسلامية، ثم ، النزول نحو البدايات ذات القِدم الموغل بالتاريخ السومري. لم تقتصر أفكار مواضيع معرض ( تكريم الماضي ) على تقديم الخطوط العامة للتاريخ الحضاري في شقيه العربي والسومري، فلقد تخللت هذه المواضيع، في الكثير من اللوحات، حالات الفنان النفسية، التي هي بتأثر مستمر بالأحداث الجارية على أرض الوطن العراق، التي تظهر على شكل ذكريات ذات علاقة بطفولة الفنان الشخصية وذكريات من طفولته المرتبطة بأحداث الوطن، الشيء الذي يقفز به من الماضي الذهبي إلى أحداث الحاضر المأساوية. إن السفر في التاريخ لا ينفصل عن السفر في الذات الإنسانية مهما حاول الفنان اتخاذ موقفاً محايداً في البحث عن الحقيقة الجمالية، إن تكريم الماضي عند صادق طعمة هو تكريم للطفولة وتكريم للتاريخ.   

 

تعقد العملية الفنية

لا يمكن النظر إلى مسيرة فنية طويلة دون الانتباه إلى ظاهرة تعقد العملية الفنية، حين تطورها من موضوع إلى ثان ومن فكرة أسلوبية إلى أخرى، مختلفة في الطبيعة اللغوية أو في الهدف التعبيري. هكذا جاءت حصيلة معرض الفنان صادق غنية بالتجربة وبالمحاولة الجريئة في البحث عن المختلف أو الجديد أو حتى في استغلال المألوف في الثقافة والطرح التشكيلي مثل استخدام الحرف والخط العربي كموضوع في الصورة الفنية.

الطين والطفولة والنهر

لم يأتِ نزوع صادق طعمة إلى استخدام مادة الطين في الصورة الفنية عن حاجته بالبحث عن مادة ملهمة جديدة، بقدر كونها تشكل الموضوع الأساس الذي يطلب التعبير عنه. يتضمن الطين عند الفنان صادق معان كثيرة، فهو مرتبط بالخليقة الأولى وبالنفس الحضاري الابتدائي، بالطفولة العراقية جميعها، التي هي طفولة  صادق المترعرعة على ضفاف الدجلة العظيم ، حيث يكون الطين سبباً للبهجة والسعادة، قبل أن يكون رمزاً للحضارة. فأي من أعمار سني اللعب، لم تكن تسعى نحو الطين، لكي تختمر بسحر خيالات النفس العائمة في رغبات الطفولة ؟ ومن منا لم يُمنح دمى لعباً طينية صنعتها له يد حنونة؟ هكذا في النفس المبدعة، صاحبة الخلق الجميل، يتم لقاء الطفولة الشخصية بالطفولة الإنسانية عند مادة الطين الأزلية، منذ وحيث كانت آلهة الطين تمرح في الأرض السومرية.

 

تبعثر التاريخ

إن توغل العصور السومرية في التاريخ القديم وتأخر اكتشافها والاحاطة بمكوناتها الحضارية من كتابة وثقافة دينية وفن تشكيلي، جعل من أخبار هذا الشعب الأصيل الإنسانية بعيدة عن أضواء الأعلام العالمي وانعدام اهتمام الجمهور المعاصر بمكوناته الثقافية التي بدأ التاريخ الإنساني بها مغامرته الحضارية الأولى. أيضاً، ثمة سبب أضافي في هذا الإهمال، هو طبيعة تبعثر التاريخ الإنساني بصورة عامة، الذي لم ولن يصل كلاً متكاملاً، من دون تشويه أو نقص، هذا ينطبق على الكيفية التي أعيد بها كتابة التاريخ السومري، في تتبع وجمع ذلك العدد الهائل من اللقى والألواح الطينية التي طبع الإنسان السومري بها ذاته المبدعة. الشيء الذي أثار فضول واهتمام صادق طعمة منذ عمله في المتحف العراقي الذي تصاحب مع بداية مسيرته الفنية. إن فكرة استخدام موضوع الطين السومري كانت حصيلة عوامل مختلفة تراكمت تأثيراتها في التأكيد على منح هذا الموضوع معنى وطنياً، فهي لم تكن وليدة الصدفة أو أن تكن آنيّة اليوم، إنما كانت ضرورة مصيرية، ارتبطت باختيار الفنان صادق بتكوين شخصيته الفنية ضمن الحركة الفنية الوطنية العراقية، الفعل الطبيعي الذي قام به أغلب الفنانون العراقيون من أجل تأكيد شخصيتهم الفنية ضمن واقع ثقافي وطني ناهض جديد.          

 

الصورة الطينية

شرع صادق طعمة بتحقيق الصورة الفنية لموضوع الطين السومري، بواسطة مواد مختلفة مطاوعة تجمع ما بين عجين طيني مصطنع وأنواع من الأقمشة ومواد لاصقة وأصباغ تمزج بالماء، ساعدت على أخراج الهيئة الفنية لمادة الطين، تلك التي سيصنع الفنان بها موضوع الصورة الفنية، التي حقق البعض منها على الورق والبعض الآخر على القماش. إن الشيء الأكثر حيوية في هذه الأعمال يكمن في استحالة فصل مادة تحقيق الصورة عن موضوعها العام، فرسوم ورموز وكتابات الرقم الطينية السومرية وآثار الأختام الاسطوانية التي قام بصنعها الفنان، تمثل شكلاً وموضوعاً واحداً متحداً بمادة الطين الفنية، التي تكوّن الهدف الأول من موضوع العمل الفني.

الزمن والمنفى

 احتوى معرض الفنان صادق طعمة ( تكريم الماضي ) على أعمال تنوعت  في المواضيع واختلفت في الأحجام و في حرفيات عمل تحقيقها، كانت أغلبها قد عرضت في مناسبات مختلفة سابقة، ضمن معارض شخصية ومعارض مشتركة، على المستوى العالمي والعربي، فبالرغم من هذا التنوع والاختلاف الذي يوحي للمشاهد الغير متمرس بقراءة العمل الفني، بأن ثمة تعثر أو تنافر في المسار العام لعملية التعبير الشخصي في هذه المسيرة الفنية وهي نظرة لها مبرراتها الطبيعية الناجمة عن طول هذه المسيرة الزمنية وتعدد الشروط الإنسانية التي تحكمت بيوميات الفنان في حياة المنفى، فإن المواضيع المطروحة في هذا المعرض لا تخرج عن حاجة الفنان في التعبير عن انتماءه الوطني العراقي، في مجموع اللوحات التي صورت رغبات الطفولة القديمة والحنين والأحلام والتاريخ والأحداث المأساوية التي أصبحت من سمات الحياة العراقية.

الرقيْم الطيني    

إن أهم فكرة اقترحها صادق طعمة في معرض ( تكريم الماضي ) هي استعارته المفترضة لشكل ومعنى الرقيم الطيني السومري، التي منحته حرية واسعة بالتعبير بطريقة مباشرة عن الماضي المتمثل بالحضارة السومرية، بالاستعارة الحرفية للبعض من الصور أو المقاطع الكتابية وهو استخدام يقترب من النسخ التسجيلي ذو الهدف العلمي كما نجده عند دارسي الآثار القديمة ، إذ عمد الفنان الأخذ من نصوص حقيقية استنسخها عن ألواح معروفة لديه، أيضاً ، باستخدام الاستعارة بتصرف، تلخصت بمحاولة الفنان تقمص الشخصية الفنية السومرية بابتداع نقوش لصور رمزية مجردة وهيئات واقعية إنسانية وحيوانية، تنتمي وهمياً إلى الموروث السومري. حقق الفنان صادق مواضيع هذه الرقم الطينية بحجم صغير يلائم أو يقترب من الأحجام الحقيقية التي تعودنا على رؤيتها في متاحف الآثار القديمة، ذلك ، من أجل خلق حالة شعورية بواقعية العمل والإيحاء بجدوى انتماءه لهذه الحضارة الطينية الموغلة بالأصالة الابتدائية.

 

آفاق عمل جديدة

 إن استعارته المفترضة من التراث السومري بالصيغة المذكورة أعلاه مكنته من امتلاك نظرية عمل ولغة فنية حية، غنية المفردات، متكاملة الأبجدية، قادرة على طرح ومعالجة أي من المواضيع وبأي أسلوب كان دون الوقوع بالنمطية التي خنقت أغلب الفنانين العراقيين من الرواد، على وجه الخصوص في سني السبعينات، حيث توقف هؤلاء الفنانين، نتيجة أسباب عدة، من التواصل في التعامل مع القضايا الوطنية بصيغة إنسانية وربطها بالعملية الجمالية، مما أدى إلى انحصارهم في تكرار عمل صورة واحدة مملة باسم الأسلوبية الشخصية، التي ما زال تأثيرها السلبي يعرقل التصور الخلاق الذي كان دائماً من صفة الفن العراقي. إن هذه الحرية التي تمكن صادق طعمة من الحصول عليها، دفعته إلى اتخاذ خطوات جريئة باستخدام أكثر من طبيعة لغوية تشكيلية في آن واحد وفي الصورة الواحدة ومعالجة الوحدات الفنية التي تنتمي إلى التراث الثقافي الفني العراقي والعربي الإسلامي، مثل الوحدات الشكلية السومرية، من رموز الآلهة المجردة والواقعية والخط العربي ووحدات من الزخرفة الإسلامية، جنباً إلى جنب على مساحة واحدة من الصورة الفنية، أي الجمع بين الوحدات الفنية المختلفة في موضوع واحد. إن هذا الجمع بين الكتابة السومرية والخط العربي وطرحها كموضوع فني في عمل تصويري واحد هو تحقيق جمالي كفيل بالدفاع عن مشاعر الوحدة الوطنية وفعل إنساني لا يمنح مجالاً للتناحر العنصري، القومي والديني، على أرض الرافدين التي رأت أولى وآخر الحضارات القديمة.

 

مواضيع أخرى

لم تقتصر تجربة صادق طعمة على معالجة الطين في التعبير عن شموخ الماضي الثقافي البعيد، إنما ثمة إنجازات صورية تستحق التقييم حققت بحرفية الطين وبأحجام متوسطة أو أكبر نسبياً من صور مواضيع سومرياته، تضمنت على مواضيع تتكلم عن الأحداث المأساوية للوضع السياسي لعراق اليوم، تركز مضمونها على معاناة ومأساة حياة المرأة العراقية، مثل صورة ( امرأة الملح ) وصورة أخرى مقاربة لموضوع الأولى ( نساء الملح ) وقد حقق هاتين الصورتين بطريقة مدهشة حافظت على روحية الطين كمادة تذكر بطبيعة النحت، أيضاً، حافظت على معنى السطح الذي يذكر بطبيعة الصورة المرسومة.    

 

      

المعادلة السومرية

أصبح الاعتراف والادعاء بالسومرية، ضمن الحالة الاجتماعية أو الانتماء العرقي والسياسي، نوعاً من الدفاع عن الحقوق وعن الهوية الوطنية، في عراق يبنى على شفا جرف هارٍ لمستنقع آسن بالعنصرية البغيضة، من عرقية ومذهبية دينية، بالضد من معنى الهوية الوطنية العراقية، التي تكون عند الفنان العراقي، قبل كل شيء، تمثيل وانتماء ثقافي وطني وإنساني. إن المعركة الجمالية في سومريات صادق طعمة هي إجابات موجهة ضد مأساة الاستهتار السياسي والجرائم العنصرية التي استفحل فعلها باسم المشاعر الوطنية العراقية. أيضاً، أنها دعوة لنبذ التفرقة والعداوة الوطنية.

 

عباس باني حسن العتّابي ـ فرنسا

 

abbashasan@hotmail.fr