مذكرات سجينة
صفحات حمراء من تاريخٍ منسي




الفصل الأول: الشهيدة بنت الهدى‏ .. أميرة الشهيدات
الفصل الثاني: الشهيدة سلوى‏ البحراني
الفصل الثالث: الشهيدة السعيدة «أُم عارف»
الفصل الرابع: الشهيدة الأُستاذة سميرة عودة .. شموخ الجنوب
الفصل الخامس: الشهيدة أحلام العياشي
الفصل السادس: الشهيدة فاطمة : الفضيلة التي تحدّت عُهر الطغاة
الفصل السابع: الشهيدة عواطف : الجسد المُمزَّق بين كُرسي الكهرباء وتجارب الكيمياء
الفصل الثامن: الشهيدة أمل الرُبيعي : الشهيدة الشاهدة
الفصل التاسع: الشهيدة سُميّة البغدادي
الفصل العاشر: الشهيدة ميسون الأسدي .. طائر الشمس
فهرس الكتاب





حقوق الطبع والترجمة محفوظة للمؤلف‏
1423 ه - 2002 م
الطبعة الأول



إسم الكتاب : مذكرات سجينة
تأليف : علي العراقي - فاطمة العراقي‏
تنضيد الحروف : عبدالأمير محمد (أبو محمد السوداني)
المطبعة :
الناشر :
الكمية : 1000 نسخة
السعر :

المركز الوثائقي لشهيدات الحركة الإسلامية في العراق‏








مذكرات سجينة

صفحات حمراء من تاريخٍ منسي‏







تأليف‏
فاطمة العراقي علي العراقي‏








دار ال ....






«لقد كان في قَصَصِهِم عِبرَةٌ لأُوْلي الالباب‏

ما كان حديثاً يفترى‏ »



الإهداء

الى‏ أرغفة الروح في زمن القحط ..
الى‏ الأرواح التي جادت بالفضيلة في تجارةٍ لن تبور ..
الى‏ حكايا الجِراح ، الناطقات في زمن الخرسى‏ ..
الى‏ اللاتي علّمن الرجال معنى‏ الرجولة ..
الى‏ اللاتي تنحني لبطولاتهن هامات الرجال ..
الى‏ الخالدات مع العراق وشمس الأبد ..
والى‏ كُلِّ حجيج كربلاء ، الأحرار الذين لم‏
ينضَب الزيت من مصابيحهم ..
أهدي صوراً من حياة أُخرى‏ .

َّ مذكرات سجينة ...
َّ ... المقدمة


المقدمة

وكانت البداية
لم يكن هيِّناً التصدّي لمشروع توثيق أنبل ظاهرة عرفها تاريخ العراق المعاصر بل وتاريخ الإنسان المسلم المعاصر ، ألا وهي الشهادة ، التي تعتبر أبرز مظهر حضاري شعبي أطَّر أحداث العراق السياسية خلال سني النصف الأول من عقد الثمانينات ..
والصعوبة ناجمة عن الخشية في التقصير بحق الشهيدات والعجز عن تبيان عظمة التضحية التي قدّمتها أولاء اللّبوات تجاه دينهن ووطنهن ، والحفاظ على‏ خصائصِ تلك المرحلة التي احتضنت عملهن وصدق نواياهن .. سيَّما وأنني لست روائياً ولا كاتب قصة ، بل لم أُحاول قبل ذلك أن أضع لمسات ولو أولية لاحداثٍ جسام .
لقد اضطرتنا الظروف للخروج من الوطن ، ورُبَّ ضارّة نافعة ، فقد كان المهجر محطّةً لنا للملمة شَتات مذكراتنا ، فتصدّيت لمهمة الكتابة وإنجاز المشروع خصوصاً بعد أن «علمت أنَّ عملي لا يعملهُ غيري فاجتهدت» .
- الإمام علي‏7 ، نهج البلاغة .
نعم ، فبعد أن استقر بنا المقام بأشهرٍ لفت نظر زوجتي وأثار دهشتها التغييب المطلق والتناسي التام لحبيباتها الشهيدات الغاليات ..
- تم جرد جميع الصحف العراقية في المهجر الإيراني : (مجلّدات صحيفة الجهاد من العدد الأول عام 197م الى‏ عام 2001م ، ومجلة الجهاد ، وكذا مجلدات مجلة الشهيدة ، وصحيفة الشهيد ، ومجلدات صحف لواء الصدر وبدر والشهادة ، وصحف المبلِّغ الرسالي والنبأ والمنتدى‏ وحتى‏ صحف المهجر السوري) فلم نجد مقالاً تامّاً يؤرِّخ لحياة وجهاد واستشهاد زينبيّة واحدة من زينبياتنا المنسيّات ..
نعم ، وجدتُ أسطراً غائمة تناثرت هنا وهناك بحياءٍ واختزال ، في عددٍ أو عددين وعلى‏ مدى‏ عقدين من السنين !
أما المؤلَّفات ، فالمهجر يُصدِّر ولله الحمد عشرات الكتب الجديدة وبالأطنان ، غير أننا لم ولن نعثر على‏ كتابٍ واحدٍ يُورِّخ ولو لشهيدة واحدة من شهيداتنا المنسيّات !!

فطفح بها الألم ، وانهمرت الدموع وتقرّحت الجفون .. ثم عتبتْ ونادت ، ولكن لا حياة لمن تنادي !
فأحسستُ أن دموعها قد جالت في عيوني ، وعتبها قد سحق صمتي ، فقرّرت الكتابة وأذعنت لثورة قلمي ، فكانت «مذكرات سجينة» .
- «إيهٍ فاطمة .. ماذا أقول يا ابنة العراق ؟ هل أقولُ أن مأساتنا هي أن ننسى‏ مأساتنا ! أن ننسى‏ الدماء الزكية ! أن ننسى‏ أخواتكِ الزينبيات اللاتي ساقَهنَّ فرعون بغداد الى‏ طاحونة الموت الأحمر وساحات الاعدام ؟!
وأنتِ يارفيقة الدرب ، إذ تهمسين بمذكراتكِ الحزينة ، فها أنا أرى‏ دموعكِ ماثلة أمامي وأنتِ تملئين القلم من محبرة الهمِّ والحزن لتُذكِّرينا بقرابين البيعة المنسيّة .. فشكراً لكِ شكراً لكِ ، لان في همساتكِ صرخة غضب في دنيا النسيان واللامبالاة ، وفي مذكراتكِ وثيقة شاهدة وشهيدة ، شاهدة على‏ وحشيّة ذئاب البعث ، وشهيدة تروي ظُلم ذَوي القُربى‏ ..
عُذراً فاطمة ، وعُذراً لكل الزينبيات المنسيّات ، لأننا نسيناهنَّ أو تناسيناهُنَّ ، نعم عزيزتاه .. لقد ابتعدنا عن الجهاد وزدنا بُعداً ، حتى‏ أصبح الكثير منّا - في المهجر - يسقط إعياءاً وخواءاً ..
فلنقف وقفة تأمُّلٍ صادقة ، ولنَعد في أذهاننا مأساة أخواتنا ونباتنا وما قدّمن ، كي لا نتأخّر في الاعتذار» من مقالٍ نُشر في صحيفة الكلمة الحرة ، بأسم علي العراقي وتحت عنوان : كي لانتأخَّر في الاعتذار .
الشهيدات لسن بحاجة الى‏ كُتُب تمجيد ، والمذكرات ليست محاولة لتعميدهنَّ بماء الكتابة ، غير انني رأيت من الأهمية بمكان تسليط الضوء على‏ نماذجنا النسوية الفاعلة - خصوصاً ان تاريخنا الإسلامي المعاصر يفتقر الى‏ نساء مجاهدات كزينبيات العراق - علِّي أُشارك ولو بشمعةٍ في إنارة الدرب الوعر أمام جيل ابنائنا الذين فُرِضَ على‏ شبابهم البلاء وخيّمت على‏ أحلامهم المِحْنة ..
فقرّرت هذه المرة كتابة عذابات تلك المذكِّرات في أخاديد القلوب لا على‏ ورق الليل ، وبذلت الجهد الجهيد للملمة هذه الأشتات المبعثرة علِّني أُوفَّق في إعادة بعض ملامح الصورة .. وهكذا نمتْ الرغبة الصادقة الصارمة للتصدّي لهذا البخس والإهمال الذي طال شهيداتنا عشرين عام ، والذي سبّب تغييب صفحاتٍ من نور كادت تنطفى‏ء لتراكم المِحَن وتغيِّر المهاجر والإحَن والتي جعلت من ألوانها شاحبةً باهتة !
ساعات وأيام وشهور نادرة ، أحسست أنها ساحرة، غرقتُ بها مع أطياف الزينبيات وعوالم الشهيدات .. فلم أشعر للحظةٍ من اللحظات أنني قريب من المولى‏ الكريم كما شعرت وانا في حالة استغراقٍ في الكتابة عن الشهيدات .
- باشرنا في كتابة «مذكرات سجينة» في صحيفة الكلمة الحرّة ، ونحن على‏ يقين أن العمل في كشف هذا الملف الخطير سيكون في دائرة رصد المرتزقة إلّا أننا لم ننثن ولن ننثني ، لأن الكلمة موقف ، وأعز الرقاب قُطِعت لانها نطقت بآبةِ حق ..
وحدثَ ما كنّا نتوقّع .. فأثناء سفري وعائلتي الى‏ مدينة مشهد المقدّسة في الفترة (14 - 21)/2000/11م لزيارة مرقد الإمام الرضا7 ، إنسلَّ في جُنح الظلام مرتزقة أذلّاء الى‏ منزلي ، وتجاوزوا على‏ حُرمة بيتي .. حيث وجدنا رسائل تحذير وتهديد رخيصة قد خُطَّت على‏ جدران الغرف ، وقد بُعثرت محتويات البيت ، غير أنهم لم يسرقوا شيئاً !! وقد سُجِّل الحادث من قِبَل الجهات الرسمية المختصّة ، وسنكشف عن تفاصيل مصوّرة وموثّقة في الوقت المناسب إن شاء الله تعالى‏ .
ذكريات عِبر الجِراح نكتبها لجيل الفتح وللّذي سيولد ، بأسلوب سلسٍ واضح لايخلو من البساطة والعفوية ، ليتسنّى‏ للقراء بمختلف مستوياتهم إدراك مواعظها واستيعاب غاياتها .. وقد حرصنا على‏ كتابتها بروحٍ حياديّة وجرأةٍ موضوعية ، وبدماء الحق لابحبر الأحقاد ، لأنها وثيقةٌ للأجيال .

قرابين الفجر ..
المذكرات صفحات حمراء من دمٍ زينبيٍّ قانٍ ، لخدورٍ مُزِّقَت وأعراضٍ انتُهِكَت ولبواتٍ دُفِنت .. تؤرِّخ لمرحلةٍ هي من أبشع مراحل المواجهة مع الطاغوت البعثي .. لذا فهي صرخة ألم لأيامنا السود في دنيا النسيان ، وصفعة ضمير من دون صدى‏ ، للمهجر الطافح بالخَدَر واللامبالاة ، ولَسعة قلم ملأ مِدادهُ من آهات السنين العجاف..
والمذكرات محاولة توثيقية لبيانات ثورية ضد الجبت والطاغوت ، لواقعٍ عاشتهُ فتيات العراق ، ووثيقة إدانة لكلِّ المتثائبين في محكمة التاريخ ..
وهي في الوقت نفسه رصيد إرثٍ لنساء العراق والمهجر ، من فيتات آثرن الموت عِزّاً على‏ الحياة ذُلّا .. وإشراقة أملٍ في دنيا القنوط ، وسَبَحات دف‏ءٍ في آفاق الروح ، وإطلالة على‏ عالمٍ يُجبركَ أن تُعيد حساباتك من جديد نحو عالَم الآخرة ..
زحفٌ آثم اجتاحَ بلد المقدّسات كوباءٍ فتّاك ، فتصدّى‏ لهُ جيل نَدر أن يجود الزمن بمثل سخائِه وتضحياته .. إنهُ جيل الصدر وبنت الهُدى‏ .
فكان يقف على‏ مسرح المعركة كيانان نقيضان ، أحدهما راسف في أغلال الباطل ومُزوَّد بكل أساليب المكر والخداع ، الآخر متحرِّر من أغلال الشهوات ومتسامي في الغايات .
نماذج نسوية رائدة عِشنَ الصراع ضد طاغوت العراق كأشد ما يكون الصراع ، قرابين سخيّة لإحياء دور العقيلة زينب‏3 أمام يزيد العراق .. إنَّهن قرابين الفجر الذي أشرق سنا نوره مع ضياء شمس الثورة الإسلامية في إيران ..
فتيات عِشن جِراح الوطن وأرهقتهنَّ همومه ، أخذن مواقعهنَّ الريادية في خارطة العراق الجهادية ، وقاتلنَ بنوايا صادقة بعيدة عن الرخيص من الأهداف .. فحاولنَ بعطرِهنَّ الزينبي الفوّاح بَثْ الهِمَم في النفوس الهامدة وبعث الحياة في الأجساد الراقدة ..
نوارس تم اعتقالهنَّ من مختلف شطآن العراق وروافده ، وتم تمزيقهنَّ بمختلف أدوات التعذيب ووسائله .. فكانت أجسادهنَّ صغيرة ، إلّا أن راواحهنَّ كبيرة كبر مواقفهن وعظيم تضحياتهن ، وكانت جِراحهن بطولة في جسد الوطن الكبير ، - «جرحُكَ بطولة ، جرحُكَ قوة .. وهو جرح في جسدك الصغير ، لكنهُ يتحوّل في جسد الأمةِ الى‏ قوة» سيد شهداء حزب الله لبنان ، السيد عباس الموسوي .
ودمائهن خير صائن لحركة الأُمة نحو الاستقامة .. فتمازجت الدماء وتشابكت الاغصان حتى‏ بلغت الثرى‏ .
إننا بحق أمام نوعٍ فريدٍ من النساء ، وحُقَّ للعراق أن يملأ صفحاته بعبق بطولاتهن ، وينير أسطُره بشمس تضحياتهن .. فتيات انطلقن من قلب المِحْنة وأعماق هم الأُمة ، تجاسرن بكلِّ عزمٍ وكابدن في سبيل الدين والوطن شتّى‏ البلايا والمِحَن .. زينبيات جئن يوقظن النائمين على‏ الفجر الصادق القادم من مخاضات الزنازين .
ومن هنا كانت حركة الزينبيات في خط الاستشهاد جزءاً لايتجزّأ من ضرورات المعركة لأُمةٍ مسلمةٍ متوجهةٍ نحو الله ، كُن انصار حسين زمانهن وشتائل زينب عصرهن ، التي أورقت سيوفاً وسنابلاً ، فأينما يكون يزيد لابد من حسين وزينب، ومَن لا يملك زينب في قلبه لايتذوّق الكرامة في حياته ، لانها حياة بلا عقيلة .
إذن لابُدَّ من المشانق لنصل الى‏ ما نطمح اليه من فتحٍ ونعمة ، لابد من الخسائر وإن كانت مؤلمة .. فلا حرية بلا دماء ، لكن الذي يؤلم الروح أن لكلِّ حربٍ قوانينها إلّا الحرب البعثية ، ولكل السجون أساليبها البشعة ، إلّا الزنازين البعثية .. قطعان من المرتزقة ، حيث الدمار وموت الضمير ، وصور من سبي الأعراض وهتك الحُرمات مالا يحسن للقلم سوى‏ رسم جزء منها ..
القارى‏ء الكريم
لا أُريد أن أُثير أشجانك ، فلذلك حديثاً آخر سأبُثَّهُ لكَ لاحقاً إن شاء الله تعالى‏ .. كانوا يقتلون أنصار الأنبياء ليُعبَد الوثن ، يقتلون أنصار الحُسين ليُعبَد البعث .. إنها دماء بدرٍ وخيبرٍ وكربلاء .
لذا شهد (أبو غريب) و(الرضوانية) والصحارى‏ النائية مشاهداً بشعة من مهرجانات الإعدام الجماعية لم تشهد لها حتى‏ محاكم التفتيش مثيلاً ، مما جعل دموية نظام بعث العراق من حقائق هذا الوجود .
أيَّ مصائبٍ على‏ شعبنا أن يتحمّلها ، وأيَّ دمارٍ علينا أن نكابدهُ ، وكم من القادة والأبطال يجب أن ينزف كي نغسل روح العراق وعقله من رجس البعث .. شعبٌ صابرٌ محتسبٌ حُمِّل الكثير من ميراث الطُغاة ، حتى‏ حار المؤرخون أيَّ فصلٍ من جهادهِ يُخلِّدون ، وأيَّ عبقٍ من بطولاته وتضحياته يُسطِّرون !

أضابير دثّروها بالتُراب !
الحديث عن الشهيد والشهادة هو الحديث عن القيم ومحاولة زرعها في شرايين الأمّة من جديد ، وما المذكرات سوى‏ دروسٍ في التحرّر من قيود الذات وأغلال الشهوات وبالتالي تفعيل الطاقات .. ونحن لانملك من وسائل الضغط على‏ الواقع المهجري الراكد سوى‏ دماء الزينبيات ..
في المهجر تغيرت الكثير من دلالات الهجرة ومعاني الجهاد ، وربما أعطت النقيض .. لذا لا غرابة أن نجد أكثر المنسيِّين والمهمَّشين في المهجر هُم من قوافل الشهداء والمجاهدين ! باعتبارهم المرآة التي تكشف سوءاتنا ونقيض ادّعاءاتنا !
نعم ، لاغرابة .. فالاذلّاء المترفين الذين أدمنوا حياة الدِعة والخواء يمقتون حتى‏ الحديث عن الثورة والثوّار ، ولا يطيقون شمَّ عطر دماء الأحرار ..
جيل نبت على‏ نجيع الدم ، ملأ العراق جهاداً وتضحيات ، انتهى‏ أغلبهُ في المهجر الى‏ روحٍ خاوية لاهمَّ لها سوى‏ دنيا خضراء وعيشةٍ بلهاء .. إنّهمُ ثوّار الظروف ، هاجروا ليهجروا - ولو بعد حينٍ - ساحات الجهاد والاستشهاد ، وليهيموا على‏ وجوههم في أقطار الأرض ، بحثاً عن الأمان وتَرف العيش !
ناموا في أحلك ساعات الشدّة ، لأنهم وجدوا في الجهاد بؤساً وهم يرجون نعيماً .
كنتُ من كُربتي أفرُّ إليهم‏
فهمُ كُربتي فأينَ الفِرارُ
هنا في المهجر تجد أغلب الطرقات مستوية جميلة ، بَيْد أنها في الحقيقة متعرِّجة كمسار الثعبان .. إدّعاءات تنظيرية وممارسات عُصابية جثمت على‏ عقل المهجر كالاخطبوط ، فمنعت كل صيحات الانعتاق .. تكتّلات فئوية ومناطقية أدمنت استبدادية القرار ومصادرة الرأي الآخر ..
رؤى‏ وتحزبّات مُعاقة ومُعيقة منهجها التشكيك أو التسقيط لكل مَن لم يسجد لصنمها أو يدور في فلكها .. نفوس أصغت الى‏ فحيح الأرض وتناست رحاب‏ - الصنميّة مرض شائع ، غالباً ما يُصيب الحركات الرائدة العريقة .
السماء ، كُلٌّ توارث عجلاً صنعتهُ أهواءُهُ وتراكُم نزاعاته ..
لذا حلّ محل الايثار الاستئثار ، وانقلب الاختلاف الرحمة الى‏ خلاف فتنة ونقمة ، وانتسر الوعي الأُحادي الذي يلغي الآخر ولايؤسّس للمعرفة الصحيحة .
- اختلاف الرأي طبيعة فطرية في بني البشر ؛ قال تعالى‏ : (ولايزالون مختلفين إلّا مَن رحم ربك ولذلك خلقهم) .
وهنا في المهجر مواخير للكلام لاحِصَر لها ؛ تراشق الاشاعات والاتهامات سوق رائجة على‏ مدار الساعة ، وتسقيط الآخرين على‏ طريقة (أُقتلوا يوسُف أو اطرحوه أرضاً) منهج يومي للأجهاز على‏ كل مشروعٍ خيّرٍ واستئصاله وهو في مهده مادام لم ينتمِ لهم أو ينطلق من رؤاهم !
-





مهجر يفيض بالنزاعات السرّية والعلنية ، يحرص على‏ الرخيص فيفوته النفيس .. يعيش همومه واهتماماته بعيداً عن همّ العراق ومحنة شعبه ..
نعم ، هذا هو الواقع المهجري ، ولامجال لإنكاره .. ولكُلٍّ دليله وتفصيله ، ولكُلِّ مقامٍ مقال وليس كُل مايُعرف يُقال !
الى‏ الماء يسعى‏ من يغُصُّ بلُقمةٍ
الى‏ أين يسعى‏ مَن يغُصُّ بماءِ
فالمهجر بكل رموزهُ وتكتّلاته ، يعيش الازدواجية المقرفة بين الأدّعاء والممارسة .. ولانهُ واقع مترهِّل فقد كرّس في الروح الخمول وسلَّح العقل بِفن التبريرات والتخريجات الشرعية .. ولأن شعور العِزّةَ بالاثم هو السائد في عقليات أغلب المتصدّين ، أفراداً وجماعات ، فقد نظَّروا لأخطائهم وحوّلوا رؤاهم وقناعاتهم الى‏ عقائد معصومة ! لالشي‏ء سوى‏ تهميش الآخرين والغائهم ثم اخضاع الواقع ومصادرته لصالح عناوينهم ومواقعهم .
ولأن المرأة هي مَلاك حديثنا في هذا الكتاب فإننا نستطيع القول إنها كانت إحدى‏ ضحاياهم ..
مفارقة تحزُّ القلب أن نرى‏ حضور المرأة في المهجر لايتناسب وحجم عطائها وتضحياتها أثناء مشاركتها الرجل كحليفٍ دائم في العمل السياسي والثقافي في سني المواجهة العجاف .. فالمرأة في المهجر تتوق الى‏ خوض التجربة ، لكنها تفتقد الإسناد وحق الممارسة ، وعلينا أن لا نقع في خطأ الانحياز بين نقاء النظرية وبين شوائب التجربة ..
فمحْنَة المرأة العراقية أكبر وابشع من محِنْة المرأة الإيرانية قبل الثورة ، وبنت العراق ليست بأقل كفاءة من اختها الإيرانية التي احتلّت دورها باقتدار وخاضت تجربة المسؤولية بنجاح ..
ونحن على‏ يقين أن دخول المرأة العمل الثقافي والسياسي لا يتنافى‏ أو يتقاطع مع مسؤوليتها الأُسرية واستقرارها العائلي ، فلا اثنينية في الامر ، فكلاهما يسير نحو الهدف المتمثِّل برضا الله سبحانه وتعالى‏ ..
لانود أن ننكأ الجراح لولا كثرة المصاديق ، فالواقع النسوي المهجري لايُعبِّر عن حقيقة الملكات التي امتلكتها (بنت الرافدين) ، وما بعض تلك التجمُّعات النسوية إلّا سرابٍ يحسبُه الضمآن ماءاً ، والتي لاتعدوا كونها في أحسن الحالات مجالس تعزية تفتقر الى‏ مستلزمات التطوير وبعض الجلسات الثقافية المتواضعة التي لاتُشبع الطموح .
المرأة مازالت ترى‏ نفسها خارج التشكيلات الأساسية ، وان حضورها في المعادلة السياسية مازال لايتناسب وحجم تلك التضحيات .. وفي قلبها بحر عتب على‏ الحركة الإسلامية على‏ وجه الخصوص ، لانها دفعت ضريبة العمل الحزبي والتنظيمي والثقافي بالأمس في ظلِّ حِراب البعث ، واليوم في ظلِّ نِصال المهجر ..
- على‏ الرغم من ان الشاعر العربي قد أفتى‏ بتحديد وظيفة المرأة وتعيين دورها بقوله :
كُتِب القتل والقتال علينا وعلى‏ المُحصنات جر الذيول
وعلى‏ الرغم - أيضاً - من أن العوائل المتدينة في العراق كانت تستثقل بل لا تطيق تعليق «عباءة سوداء» في صالة الضيوف بسبب الغيرة والمروءة المفرطتين إلّا إن المواجهة الفعلية مع النظام ومتطلباتها استدعت الحضور النسوي المشرف وإلغاء الكثير من العقد التقاليدية فتقدمت المرأة العراقية في ميدان المواجهة واسهمت الى‏ جنب أخيها الرجل في صياغة نسيج الرفض والتحدي ، فطالها ما طال الرجال من الاعتقالات والإعدامات والتشريد والتبعيد ، بل وجدنا أمهات رساليات استقبلن جثث أولادهن الشهداء عند بوابة الطب العدلي في بغداد بسيل من الزغاريد والأهازيج وكأن أولادهن في زفة عرس .
وفي مدينة الثورة عام 1979م كانت المسيرة الجماهيرية الغاضبة التي أعقبت اعتقال الشهيد الصدر تحمل في ثناياها صفاً ثائراً من النساء المؤمنات واللاتي اغلبهن من عائلة آل المبرقع الكريمة وقد تم إعدام بعضهن واعتقال البعض الآخر .
وكانت بعض النساء تُحرِّض أبناءها للمشاركة في انتفاضة شعبان المباركة وتشحذ هممهم وتشد عزيمتهم . وفي عام 1985م وفي سجن أبو غريب وبالتحديد في قسم الإعدامات تقدمت أربعون فتاة الى‏ خشبة الإعدام وهن يهتفن ويكبرن بكل عز وفخر ، الأمر الذي أذهل الجلادين واغاضهم .
ثُمَّة مفارقة حصلت في الأداء النسوي للحركة الإسلامية وهو إشراك العنصر النسوي في مرحلة المواجهة وبالتحديد مرحلة المحنة والبلاء وتغييب دورهن في مرحلة الرخاء المهجري والأداء المؤسساتي للمعارضة الإسلامية ، والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو : لماذا نزج النساء في اصعب المواجهات واعقدها وبمواجهة أبشع طواغيت القرن بينما لم نسهم في زجهن في مشاريع المعارضة ومؤسساتها السياسية والاجتماعية ؟!
لماذا تنجح المعارضة الإسلامية في صعود المرأة الى‏ اعواد المشانق بينما تعجز أو تستنكف من صعودها الى‏ مواقع المؤسسات ومفاصلها الحيوية في صنع القرار . لماذا نزج النساء العراقيات في تنظيماتنا في الداخل والتي لاتخلو بعضها من اختراق وخطورة بينما يغيب وجودهن في مشاريعنا واطروحاتنا ؟
لماذا نحتاط في دخول نسائنا الى‏ عضوية مؤسساتنا كالمجلس الأعلى‏ وحزب الدعوة ومنظمة العمل ، بينما لانحتاط في دخولهن في طبيعة المواجهة العنيدة ؟
لماذا لانكون عادلين في توزيع الاحتياط والتريُّث ؟ فإذا كنتم تفخرون بمواقف النسوة الرساليات في معتقلات الطاغية فلماذا لانفخر بنشاطات النسوة في المهجر ؟ ومن منبر «الكملة الحرّة» جدار المستضعفين وصوت مَن لا صوت له ندعو الى‏ إشاعة ثقافة الوعي السياسي النسوي وتفعيل الممارسة النسوية في الانشطة السياسية والاجتماعية دون احتكارها على‏ فئة معينة .
ونأمل ان نشاهد في دورة «المجلس الأعلى‏» القادمة حضوراً نسوياً حضارياً فاعلاً . ولئن كان بعضنا يتحسّس ويتحرَّج من النشاط النسوي في العمل السياسي والاجتماعي فإن تحسُّسه وتحرّجه ينبغي أن يكون أشد في إدخال النسوة في معترك المواجهة غير المتكافى‏ء مع النظام الحاقد وتعرضهن الى‏ الاعتقال في دهاليز الرعب مع أسوء خلق الله .
ينبغي أن نستفيد من كل الطاقات النسوية ، سيّما أن أمامنا تجربة عظيمة في الحكم الإسلامي وما منحه من مساحات واسعة للحركة النسوية في مجمل الأداء السياسي القيادي .. فهل تأملت المرأة العراقية في مغزى‏ إرسال إحدى‏ النساء الإيرانيات مع الوفد الذي حمل رسالة الإمام التاريخية الخالدة الى‏ رئيس الاتحاد السوفيتي الأسبق قبل تفكُّكه ، بينما نشاهد مواقف مقززة للطالبان باتجاه النسوة الأفغانيات من مشاهد حجر النساء وطردهن من المدارس والمؤسسات ، باعتبار أن تواجد المرأة وحضورها الميداني ينافي «الأخلاق والقيم الإسلامية» . فلماذا نكون خمينيين بالشكل وطالبانيين بالمضمون ؟! ولماذا نكون متحضرين بالنظرية وجاهلين بالتطبيق ؟!
مقال نُشر في العدد (3) من صحيفة «الكلمة الحرّة» بأسم أنوار السرَّاج ، وبعنوان : الطاقات النسوية المُغيَّبة .. مَن المسؤول ؟!
فالواقع المهجري مازال يختزن الكثير من المظالم تجاه المرأة ، فالرؤية السائدة المتخلّفة تُصرِّح بأن المجتمع هو مجتمع الرجال ، فهو الذي قدَّم شيئاً في طريق الجهاد يَمُنُّهُ اليوم على‏ الأُمّة ، أما المرأة فلم تكن إلّا مغنماً للرجال لم تصلح لدخول معركة أو مواجهة طاغوت . فكانهم أرادوا أن ينكروا عظمة التضحية وجلالة العطاء الذي بذلته بنت الزهراء في طريق الإسلام اللاحب . وان كان للمرأة من دورٍ في حركة العمل فحركتها هامشية مرتبطة بحركة الرجل الشمولية !
فالمرأة تعرَّضت للحيف والتهميش - وأحياناً للشطب والإلغاء - على‏ يد بعض الإسلاميين الذين غرقوا في التنظير لموقعها ودورها في الإسلام ، في الوقت الذي مارسوا فيه تجاهها مزاجهم البدوي ففرَّطوا بكفاءَتها وعطّلوا دورها ، السياسي والاجتماعي ، طمعاً بمواقع القرار وعوائده بعد أن رسم (المتصدّون) صورةً مشوَّشة لها ، سيّما انهم طمروا تضحياتها في أضابير ودثّروها بالتراب منذ عقود ! غير أنهُ سيبقى‏ للجمر حرارته مهما دُثِّرَ بالرَماد .
لماذا هذه المحاولات المحمومة لاستئصال نبتة الربيع عن مواقع القرار ؟ لماذا هذا التفريط بطاقاتها ؟ بل لماذا هذا التمادي في اغتيالها كأنسانة والتشبُّث بها واحترامها كأُنثى‏ ؟! أهي جاهلية جديدة اختفت في زحمة ضجيج المهْجَر ؟!
فنحن أمام معركة حضارية مقدسة ، ومن غير الحكمة التفريط بكفاءة نصف المجتمع بحُجَج واهية وذرائع خاوية ، وان الشعور بعدم جدوائية جهاد المرأة يمثل بداية سقوط الحركة الإسلامية مهما كانت عميقة الجذور عريقة الأُصول ، لان ذلك مُنافٍ لمنطق القرآن .. بل لعل هناك مَن يؤكد وبضرسٍ قاطع ، أن وعي المرأة وجهادها يمثل «ترموميتر» الحركة الإسلامية في نضجها وسلامة منهجها .. لذا جاهدت (بنت الهدى‏) مع الرمز القائد الصدر ، أُسوةً بجهاد السيدة الزهراء مع الرمز الرسول وزينب الحوراء مع الرمز الحسين .
فهؤلاء النساء شهيدات في طريق الحق وغيرهن الكثير ، مِمَّن مشين على‏ الدرب بعزمٍ متين وهمّةٍ صلبة . يطلبن رضوان الباري تعالى‏ ، فشمخن حيث العُلى‏ ، وارتقين ذُرى‏ المجد ، لأن هذه التضحيات هي التي تصنع للأمة عظمتها ، وتمنحها كرامتها ، وتحفظ لها هيبتها .
ولهذا صارت الشهادة مغنماً لا مغرَماً ، وصارت التضحية مطلباً لامهرباً ، وإلّا فلِمَ صار أشرف الموت مفهوم الشهادة «أشرف الموت قتل الشهادة» وما الذي‏ - حديث شريف ، بحار الأنوار ج 74 / 116 .
جعلها البر الذي لايعلوه بر ، بنص حديث الرسول الكريم : «فوق كل ذي برٍّ بر فوقهُ حتى‏ يُقتَل الرجل في سبيل الله فلا يكون فوقه بر» وما الذي جعل قطرة دم‏ - حديث شريف .
الشهيد أحب قطرةً الى‏ الله تعالى‏ على‏ حد قول الحديث الوارد عن الإمام زين العابدين‏7 : «ما من قطرةٍ أحب الى‏ الله عزوجل من قطرتين ، قطرة في سبيل الله ، وقطرة دمعة في سواد الليل لايريد بها عبداً إلّا الله عزّوجل» ؟!
-
فلولا القيمة الحضارية والدلالات العقائدية في فلسفة الشهادة في الإسلام لما خصّها الله بكل هذه المنزلة الرفيعة ولما جعل الشهداء أُمراء أهل الجنة .
- «الشهداء أُمراء أهل الجنة» ، الرسول الأكرم‏9 .
وحتى‏ وإن لم يُحقِّق الشهيد غاياته باستشهاده ، فإن دماءهُ ستبقى‏ آثاراً حيّةً خالدة ، تستثير الضمائر والقلوب ، بل وتؤول الى‏ منهجٍ ثائرٍ يعمل لتحقيق أهدافه ..

شموع وأعاصير ..
لماذا إذن نُغيِب عِزَّتنا بأيدينا ؟! ولِمَ نُمزِّق كرامتنا بإرادتنا ؟! فالشهداء ذاكرة الوطن ورموز الأُمة .. الشُهداء مشاعل العز التي أضاءَت دروب الحرية في عراق الظُلم والظلام ، وصُنّاع التاريخ في أقسى‏ مراحل الصراع وأعتى‏ جولات المنازلة ..
دماء زكية غالية ما ذهبت سُدىً ولا أُريقت ثمناً للوهم ، ومن الصعب أن نتصوّر قيمةً لجهادنا ومسيرتنا بتناسي ذلك الماضي المُضمّخ بتضحياتنا .. وان هذا الصمت الطويل الذي غيّب هذا الملف الأحمر كل تلك السنين لايقل بشاعةً عن ذلك الحبل الذي غيّب تلك الأجساد الطاهرة ..
بل وان تلك الرؤى‏ المتخلفة والآفاق الضيقة - وأحياناً المغلقة - التي أدّت بتكتلات المهجر الى‏ اعتساف التخريجات وتزييف الأولويات وبالتالي تغييب‏ - لسنا بعيدين عن إدراك خطورة بعض المنعطفات وثقل الانشقاقات وقبلها ضغط الضربات وعظيم المؤامرات التي تعرضت لها بعض التكتلات السياسية العريقة ، بَيْد أن ذلك لايمنع من النقد وبعض العتب .
سجل الزينبيات هي نفسها التي ستحاول يوماً ما الى‏ استثمار تلك الملاحم البطولية والدماء الزكية لأهدافها الفئوية وتكريسها لمصالحها السياسية ، ولكن عند الضرورة وحسب الحاجة ! بعد أن تعاملت معها بمطلق الاهمال واللامبالاة عقدين ونيف من السنين ..
إن الشُهداء مُلك الإسلام والأُمة ولاينبغي أن نتحزَّب فيهم ، وأن مَن لم يُحي ذكرى‏ شُهدائه لايستحق قيادة المسير .. وإن كان من وفاءٍ نقدِّمه لهم فهو السير في‏ - «... أوصيكم بدماء الشهداء ، وبالثأر لها ... أوصيكم بدموع الأرامل وصرخات اليتامى‏ وأنين المسجونين المظلومين ، بالانتقام لها في سبيل الله» . من وصيةٍ للشهيد السعيد (أبو مريم العراقي) بطل العملية الاستشهادية التي نسفت السفارة البعثية ببيروت يوم 1981/12/15م .
دربهم واكمال مشوراهم .
كُلٌّ يدّعي وصلاً بليلى‏
وليلى‏ لا تُقِر لهم بذاكا
ولان مذكراتنا ليست دروس الماضي فحسب وإنما دروس الحاضر والمستقبل، فقد حاولت في كتابنا جعل جذور الماضي فروعاً للحاضر ، فلم أكتفِ بعرض صور تراجيدية لحياة وجهاد واستشهاد زينبياتنا ، وإن كان ذلك عَلَيَّ أهون ولرسم الصورة أجمل ، بل عرضت أخطاء الماضي المُرّة واختراقات العدو المريرة وغرفة مساعيه الحقيرة ، وتأثير كل تلك الأسباب وغيرها في اعتقال وتعذيب واستشهاد فتياتنا المخلصات .
فجميعنا مسؤول أمام الله والتاريخ في ترشيد دماء أبنائنا لمصلحة الإسلام العُليا ، فالشهادة تأصيل لا استأصال ، والعاقل مَن وضعَ الشي‏ء في مواضعه .. لأننا - سُأل أمير المؤمنين‏7 : عَرِّف لنا العاقل ؟ فقال : (العاقل مَن وضع الشي‏ء في مواضعه) .
في الوقت الذي نعتز بالشهادة ولا نبخل بالتضحيات ، نحرص في الوقت نفسه على‏ أن لانُفرِّط بالدماء .. فالى‏ متى‏ نزرع ولانحصد سوى‏ القليل من الأهداف والكثير من اللحود ! سيّما وقد أصبحنا بعد كل تلك التجارب والسنين اكثر واقعية وأعمق موضوعية أزاء أولويات جِراح الوطن وأبنائِه الطيبين ، لأن لاخير في حركةٍ تأكُلُ أبناءَها كما لاخير في طاحونةٍ لاتُطْعِم أهلها خُبزاً .
مأساتنا حيثُ نُسقي جذرَ نخلتنا
دَماً ومازال منها يُسرَقُ الرُطَبُ‏
لِذا اعتقدتُ أن كشف أخطاء الماضي حاجة تفرضها ضرورات المرحلة ومتطلبات المواجهة ، لأن تأجيل النقد وعدم المواجهة تحت ذريعة «الوقت غير مناسب والمصلحة العامة» ما هي سوى‏ وجه آخر للأستبداد ووأد الإصلاح ..
- «الظرف غير مناثب» مقال كتبه الأُستاذ (أبو حيدر الفاطمي) في صحيفة «بدر» عام 1995م يحمل فيه على‏ دُعاة مبدأ «لاتنتقدوا فالظرف غير مناسب» جاء فيه :
«... سمعنا هذا القول في أواخر السبعينات ، ومرّت الاعوام خلف بعضها حتى‏ أصبحنا اليوم وبعد (15) سنة في عصر آخر بمقياس التطور العالمي وسرعته الهائلة ، ولم يبق بيننا وبين سنة الألفين الرهيبة الذكر سوى‏ (5) سنوات ، ولكن مازلنا نستمع الى‏ تلك العبارة (الظرف غير مناسب) ... ولعلَّ الذي قالها أواخر السبعينات مازال مستعداً لأن يقولها بكل ثقة رغم إنه يجلس الآن متفرِّغاً لأعماله في أحد أسواق الجملة . نعم سيقولها بعد (15) سنة مع فارق واحد فقط (الظرف غير مناثب) بالثاء ، لان (15) سنة كفيلة بإسقاط أسنان ذلك المفكِّر ...» .
كما أننا لا نتحايل أو نتوارى‏ لإبلاغ قناعاتنا ورؤانا عن المهجر ، لان «الذي يملك البرهان لايخشى‏ حرّية البيان» ف «الضرورات تُبيح المحظورات» و«ماحُرِّم‏ - الإمام الخميني‏2 .
لذاته يُباح للضرورة» فنحنُ لم نسلك شططاً أو نتكلَّم عبثاً ، ولم نحشر أقلامنا ونستهلك مدادنا في نزاع الفئويات الخاوية والتكتلات الخالية ، بل نُحاول وصف الداء .. وإذا عُرِف المرض هانَ الدواء .
أخي القارى‏ء الكريم
نحن إن لم نتفاءَل بالمهجر فذلك لأننا لم تزل عيوننا متسمِّرة صوب العراق .. لأبطال الرافدين .. عشاق الصدر وبنت الهُدى‏ ، فهم للبيعة مخلصون ولدماء الشهداء حافظون .. هُم العراق والحركة الإسلامية رُغم طوامير الحجّاج ومهرجانات الإعدام الجماعية ، فحبال البعث الخاوية لم تَزل أوسمةً على‏ صدورهم وسلاسله الصدئة حِليَّاً لنسائهم .. فالحزن توأمهم اليومي ، والفرح خصمهم الأبدي ، مصائبهم مفاخرهم وسني عذابهم سُمَّارهم ..
وستبقى‏ راية الحوراء مرفوعة ، ويبقى‏ الدم القاني ينزفُ من شرايين أهل البيعة والولاء ، وسيكتب التاريخ أن معركة عاشوراء لم تنتهِ بعد ، فلاتعايش مع نظام الغدر ، ولاتطبُّع مع بعث الرذيلة .
- استولى‏ نظام بغداد على‏ عرشٍ استوى‏ على‏ جماجم ضحايا غدره ، فهو منذ يوم مجيئه الدامي ووصله سدّة الحكم عام 968م بدأ يغدر بقادة وكوادر انقلابه الأسود أمثال فؤاد الركابي وحردان التكريتي ، ثم غدرَ بالشعب الكردي العراقي من خلال ما يسمى‏ ببيان 11/آذار/1973م ، وغدر بالحزب الشيوعي العراقي من خلال مايسمى‏ ب (الجبهة الوطنية) ، كما غدر بوزراءه وكوادر حزبه واستأصل معهم الوحدة الاندماجية بين سوريا والعراق عام 1979م ، كما غدر بأقرب أعوانه ومرتزقته أمثال وزير دفاعه عدنان خير الله ووزير تصنيعه العسكري حسين كامل ، بل وغدر بكافة الدول الخليجية التي ساندته وساعدته في حربه العدوانية على‏ الجارة الفتيّة إيران عام 1980م .. لذا من السذاجة والبله والأُميّة التاريخية أن تظهر بعض مشاريع التعايش مع هكذا نظام بعد هكذا تجارب ، مهما تكن المكاسب والمبررات .
وسيبقى‏ جهادهم رمزاً للوفاء العقائدي في دنيا الثوّار والاحرار ، كما هي دماؤهُم وثيقة إدانة لبربرية البعث ولكل أولئك الخانعين أشباه الرجال .. وسينمو بُرعم الحرية على‏ أجسادهم ويرتوي بنجيع دمائِهم ، ليغدو شجرةً وارفة مثمرة ..
وسيختفي زمن الذئاب وتنتهي سني العذاب ، فالظلم مهما طال سيزول والظلام مهما جثمَ سينقشع ويعم الخير ، فلابد للسعادة أن تعود وللسحابة السوداء أن ترحل ، فبعد كل ليلٍ لابد من صبح .. ألف صبح .
فلنبحر بزورقنا الصغير نحو شاطى‏ء الشهادة المنسي ، ولنسبغ وضوءَنا من جِراح زينبياتنا ، ف «إنَّ ركعتين يُصلّيهما العبدُ لِربه ، لابُدَّ أن يكون وضوءُهُما من دم» ، وإن الدماء النازفة من جُرحِ حمامةٍ مسكينةٍ هي نفس الدماء المتدفِّقة من‏ - الحلّاج .
جِراح الانبياء .
القلبُ في مُذكِّرات ثائر جريح ،
كزورق قد حطّم التيارُ ألواحهْ .
والقلبُ في جنازة الشهيد ،
حمامةٌ بيضاء ،
عادت تسكن الواحهْ .
والقلب في عراقنا الحزين
يرمقُ من شُبّاك زنزانتهِ السوداء
مشانق الاعدام في الساحهْ .
والقلبُ في صدورنا تغمره البغضاء
القلب في صدورنا خُواء .
شي‏ءٌ بلا عطاءْ .
- من قصيدة «أشياء يفهمها الثوّار» للشاعر العراقي المهاجر ؛ جواد جميل .


علي العراقي‏
المهَجْر

علي العراقي‏
المهَجْر
َّ مذكرات سجينة ...
َّ ... التمهيد



التمهيد


المرأة في عهود الجاهلية والانحطاط
عاشت المرأة قبل الإسلام صوراً مريرة ومشاهد مأساوية من الظلم والاستعباد وعلى‏ مدى‏ مراحل وعهود التأريخ ، واعتبرتها بعض الحضارات مصدراً للشر وسبباً للخطيئة .. واستمرت معاناتها حتى‏ في ظل الأديان السماوية - فضلاً عن القوانين الأرضية - بسبب جور الرجولة وهيمنة الذكورة التي وأدت كل أمل يرفع من كرامتها ويعيد بعض حريتها وحقوقها ..
فقد حرّف علماء اليهود التوراة وجعلوا منها - المرأة - متاعاً يورث وسلعة تباع ، ثم جاءت الكنيسة المسيحية فبنت رؤاها وأفكارها تجاه المرأة على‏ حُطام تحريفات أحبار اليهود وما كانت عليه المرأة في ظل اليونان والرومان ..
أما في الجاهلية العربية فالمرأة مجرّد كم مسحوق لا قيمة له ، فهي إن أنجبت بنتاً لحق بها العار وأسرع الزوج بدفن المولود تخلُصاً منه .. قال تعالى‏ : (وإذا بُشِّر أحدهم بالأنثى‏ ظلَّ وجهُهُ مسوداً وهو كظيم . يتوارى‏ من القوم من سوء ما بُشّر به أيُمسكه على‏ هونٍ أم يدسُّهُ في التراب ألا ساء ما يحكمون) (وإذا الموءُدة - سورة النحل : 58 - 59 .
سُئِلتْ . بأي ذنبٍ قُتلتْ) (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلّا ما قد سلف إنه‏ - سورة التكوير : 8 - 9 .
كان فاحشةً ومقتاً وسآء سبيلاً) .
- سورة النساء : 22 .
لقد عاشت في الجاهلية ممارسات بشعة ومروءات آفكة ، فهي حاجة رخيصة يعبث بها الرجل متى‏ يشاء ويبيعها - وأحياناً يقتلها - متى‏ يشتهي !
أما في المجتمعات الغربية المادية التي رفعت شعار حقوق المرأة - شكليَّاً - فقد جعلوا منها مادةً اعلامية تجارية وقيمةً جسدية دونيّة ، بعد أن سلبوا كرامتها وعبثوا بأنوثتها إرضاءاً لأهوائهم وشهواتهم الرخيصة .. لذا طالب هذا الاتجاه - العلماني - بالأباحية المطلقة والاستغلال البشع لأُنوثتها ، وما همّهم سوى‏ اشباع غرائزهم الحيوانية ورغباتهم الجسدية وإن سبّبت دماراً للأسرةِ والمجتمع ..
فالحرية التي منحها الغرب المادي للمرأة وتبجَّح بها هي في الحقيقة حرّية البهائم في سوق الرقيق ليس إلّا .. وما تلك الجداول الشهرية والاحصائيات السنوية الرسمية إلّا دليلاً على‏ مدى‏ الانهيار النفسي والأخلاقي والأُسري الذي تعيشهُ المرأة في ظل تلك المجتمعات حتى‏ غدت كالمستجير من الرمضاء بالنار .
نعم ، لقد عانت المرأة واستُغِلَّت واضطُهِدَت ولم ينقذها من هذا الحيف والظلم والضياع سوى‏ الإسلام الذي أقرّ لها دورها الإنساني الحضاري الرائد بعد أن عاشت طيلة القرون السحيقة الماضية سجينة التقاليد الموروثة التي جرّدتها عن انسانيتها وحقوقها وكبّلتها بقيود فُرضت عليها .
فالإسلام الذي شرّع الاحكام الحكيمة والقوانين السليمة ضَمِنَ للمرأة حقوقها الشخصية والزوجية والاجتماعية والسياسية وأعطاها بل وأوجب عليها التعلّم والتثقف ، لان الجهل مفتاح كل رذيلة والوعي الفكري والاجتماعي والسياسي يجعل منها امرأة صالحة متحضِّرة تُربّي أبطالاً ومحرّري أوطان بعكس المرأة الجاهلة المتخلفة التي لاتصنع سوى‏ جيلاً من الشياطين والمنحرفين لأن (الشقي مَن شقي‏ في بطن أُمه والسعيد من سَعُدَ في بطن أُمه) ..
- حديث شريف ، بحار الأنوار : ج‏5 / 9 .
لذا نجد الإمام السجاد7 يفتخر بأُمه فيقول : «أنا ابن نقيّات الجيوب ، أنا ابن عديمات العيوب» .
فالإسلام جعل من المرأة عموداً شامخاً في خيمة الأسرة ، وساوى‏ بينها وبين الرجل بالقيمة الإنسانية دون المسؤولية ولم يُشرِّع في طاعتها لزوجها إلغاءاً لرأيها وحقوقها ، وما آية القيمومة - التي يتشبّث بها البعض - في قوله تعالى‏ (الرجال قوّامون على‏ النساء بما فضّل الله بعضهم على‏ بعض وبما أنفقوا من أموالهم) إلّا - سورة النساء : 34 .
قيمومة مقيدة مشروطة .. فالإسلام لم يُفضِّل أحدهم على‏ الآخر إلّا بالتقوى‏ (إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم) وعلى‏ الذين يتّهمون الإسلام بظلامة المرأة وغمط - سورة الحجرات : 13 .
حقوقها أن يُفرِّقوا بين تشريعات الإسلام وبين الممارسات الخاطئة لأغلب حُكّام وشعوب المسلمين .
بلى‏ ان الإسلام قد أوجب على‏ المرأة العمل لنصرة الدين وإحقاق الحق ، ولم يجوّز لها الانعزال عن ساحة الصراع وعن جهاد مواقع الانحراف في المجتمع والأُمة ، لأن مهمة تغيير الواقع المنحرف مسؤولية مشتركة غير محصورة بجنس دون آخر وأن آيات الجهاد الواردة في كتاب الله الكريم لم تختص بالرجال دون النساء، سيّما وان «الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه» لان الله جلَ‏ - الإمام علي‏7 ، نهج البلاغة .
وعلا لم يخلق المرأة لتعيش العزلة في البيت بل هي (كالقرآن كلاهما أوكل إليه مهمة صنع الرجل) .. لذا نجد خطابات القرآن الكريم تبدأ بعبارة «ياأيها الناس» أو «يا - (المرأة كالقرآن كلاهما أوكل إليه مهمة صنع الرجل) . الأمام الخميني‏2 .
أيها الذين آمنوا» ، أما آيات الجهاد فهي شاملة للرجل والمرأة على‏ حدٍّ سواء ، كمال في قوله تعالى‏ : ( ) ، وقوله تعالى‏ : (كُتِبَ عليكُم القِتالُ وهو كُرْهٌ لكم وعسى‏ أن تَكرَهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم) ، وقوله : (انفروا خِفافاً وثِقالاً وجاهِدوا - سورة البقرة : 216 .
بأموالكم وأنفُسِكُم في سبيل الله ذلكُمْ خيرٌ لكم) ، وقوله : (والمؤمنون‏ - سورة التوبة : 41 .
والمؤمنات بعضهم أولياء بعضٍ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله اولئك سيرحمُهُم الله ان الله عزيز حكيم . وعد اللهُ المؤمنين والمؤمنات جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها ومساكن طيبةً في جنّاتِ عدنٍ ورضوانٌ من اللهِ أكبرُ ذلك هو الفوزُ العظيم) .
- سورة التوبة : 71 - 72 .
فهذه الآيات وغيرها شاملة لكلا الجنسين بمقتضى‏ قاعدة اشتراك الأحكام .. وإذا كانت المرأة لاتُلزَم بالجهاد الابتدائي بهدف الدعوة الى‏ الإسلام فإنها مُلزَمة بأقسام الجهاد الأُخرى‏ سيّما الجهاد لحفظ بيضة الإسلام ، وإن كان الجهاد واجباً كفائياً على‏ الرجل شريطة أن يقوم به ، فهو واجباً عينياً على‏ الرجل والمرأة إذا لم يوجد مَن به الكفاية ..
ومن الواضح أن الجهاد في أرض العراق ضد نظام البعث الكافر ليس جهاداً ابتدائياً ، إنما هو دفاعياً يهدف الى‏ تحرير مقدسات المسلمين من رجس البعث الصليبي ، وجهاداً مقدساً للحفاظ على‏ بيضة الإسلام .
- أفتى‏ معظم مراجع وعلماء المسلمين بمشروعية جهاد المرأة ضد الظلم والظالمين ، كما أفتى‏ أغلب المراجع المتصدّين بحلّية العمليات الاستشهادية للرجل والمرأة على‏ حدٍّ سواء .. وقد أفتى‏ سماحة العلّامة السيد محمد حسين فضل الله - وبعد يوم واحد من أول عملية استشهادية لفتاةٍ في فلسطين المحتلة - بمشروعية العملية ، إذ قال : «إننا نفخر بشهيداتنا افتخارنا بشهدائنا ، وأنّ شعباً تتصدّى‏ فيه النساء للأستشهاد هو شعب لا يُقهر ، وهو جدير بالحياة والعزّة والكرامة»
كما أكد سماحته أن «جهاد المرأة الاستشهادية في فلسطين المحتلة هو من أكثر أنواع الجهاد ثواباً ، وحتى‏ أكثر ثواباً من جهاد الرجل ، لانه جهاد تطوّعي» .
إذن فمسؤولية انزال حكم الله في الأرض والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبالتالي تقويم المجتمع ليست منحصرة بالرجل دون المرأة ، فقد جاء في قوله تعالى‏ (فاستجاب لهم ربهم أنّي لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى‏ بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقُتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأُدخلنهم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله والله عنده حسن الثواب) وقد ورد في الحديث الشريف : «كُلّكم راعٍ وكُلّكُم مسؤول‏ - سورة آل عمران : 195 .
عن رعيّته» .
- بحار الأنوار ج 72 / 38 .
كذلك نجد الإسلام ومن خلال دعوة القرآن والرسول والآل الكرام الى‏ فريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يُفرِّقوا بين الرجل والمرأة ، فقد قال عزَّ مِن قائل : (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) والولاية هنا مُطلقة (اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً) والقرآن من خلال آية الولاية هذه لايريد للمؤمنة أن تنزوي عن الواقع بل تتفاعل معه - ومن خلال التعاون والاندماج والتكامل مع المؤمنين - في شتّى‏ المجالات العلمية والعملية الصالحة .
وقد شرّعت آية الولاية ومن خلال النص الصريح (يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) جواز حركة المرأة في جميع المجالات الأمنية والأصلاحية والسياسية وغيرها ، ومحاربة الظلم الذي هو قمة المنكر ودعم سيادة المعروف الذي يمثل ذروة العدل ..
وكما جاء في كلام الرسول الأكرم‏9 فإن (النساء شقائق النعمان) في بناء الحياة وإصلاحها ، كما أن الأمر الوارد في آية الولاية المباركة هذه هو أمراً مولويّاً لا إرشادياً على‏ حدِّ قول الفقهاء رعاهم الله ، لذا فأن النص القرآني يفتح أمام المرأة حق المشاركة في الحياة السياسية - كما أسلفنا - فضلاً عن الاجتماعية ، مادامت المرأة مؤهلة في إبرام المواثيق والعقود - كعقد الزواج مثلاً .
فالإسلام أعطى‏ للمرأة من الحقوق والضمانات مالم يعطهِ أحد من المذاهب المادية والعلمانية ، وقد استدلَّ على‏ ذلك فقهاء الإسلام واثبتوه في رسائلهم ومؤلفاتهم ، بل وقد جوّز عدد من الفقهاء - رعاهم الله - جواز الرجوع للمرأة - جاء في كتاب الندوة ، ج‏1 للعلّامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله : «القاعدة العلمية تقتضي أن لا فرق بين الرجل والمرأة في جواز التقليد إن توفرت شرائط التقليد كما ذكر السيد محسن الحكيم‏2 والآخرون ذلك» ..
ويضع بعض العلماء ومنهم السيد الخوئي‏2 مشكلة الحجاب كحاجز حول الموضوع ويقول «بأن المطلوب من المرأة أن تتحجّب ، والمرجعية تفرض اختلاطها بالناس وما الى‏ ذلك ، وهذا يتنافى‏ مع طبيعة الحجاب» .
ومسألة الحجاب بالمنع لا نفهم له وجهاً ، لان المسألة مسألة الرجوع اليها في الفتوى‏ التي يمكن أن تحصل ولو من وراء حجاب أو من خلال الرسالة العملية أو الرسالة المرسلة اليها .
وقد أجاب سماحته على‏ سؤالٍ حول تصدّي المرأة لمواقع تشريعية وتنفيذية وكما يلي :
1 - الإفتاء : يجوز ذلك لان مسألة رجوع الجاهل الى‏ العالِم التي جرى‏ عليها العقلاء باعتبار أن القضية تتصل بالأخذ بعلم العالِم من دون دخل لكونه ذكراً أو أُنثى‏ ، هذا بالاضافة الى‏ قوله تعالى‏ : (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون) وقوله تعالى‏ : (فلولا نفر من كل فرقةٍ منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون) بناء على‏ الاستدلال بها على‏ شرعية التقليد .
المجتهدة الجامعة للشرائط حسب القواعد الأصولية الفقهيّة ، لان القاعدة لاتُحدِّد جنس العالِم الذي يجب أن يرجع اليه الجاهل ، إلّا أن الكثير من الفقهاء يتحفّظون في ذلك من باب الاحتياط ليس إلّا .
الذي نحرص أن على‏ قوله هنا هو أننا لا نطالب باعطاء المرأة من الوظائف مالا ينسجم مع طبيعتها النفسية والتكوينية ، وان كل الذي نقصده هو أن على‏ المرأة الوفاء بالتزاماتها الشرعية تجاه دينها ومجتمعها وأن تبذل كُل الجهد - وبحسب ظروف الجهاد - حينما يتعرض المجتمع الى‏ الانحراف والإسلام الى‏ الخطر ، لان العمل الرسالي بمنزلة الصلاة والصوم وسائر العبادات الواجبة ، وسيكون التوفيق من نصيبها (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبُلنا وإنّ الله لمع المحسنين) شريطة - سورة العنكبوت : 69 .
ان لا تخرج عن رياض الحشمة والكرامة .
وإذا كان الحجاب والعفّة والاخلاق عذراً لبعض المتقاعسين في عدم التفاعل مع الواقع واصلاحه فهو مطلوب أيضاً من الرجل والمرأة على‏ حدٍّ سواء ، لان الآية في قوله تعالى‏ : (إنّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعدّ الله لهم مغفرةً وأجراً عظيماً) لا تُميِّز في‏ - سورة الأحزاب : 35 .
الجانب الأخلاقي بين رجل وإمرأة (وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى‏ الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً) ، ثم أن الآيات التي تتحدث عن الجانب الجزائي مثلاً : (الزانية والزاني‏ - سورة الأحزاب : 36 .
فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) و (والسارق‏ - سورة النور : 2 .
والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم) لم تفرض‏ - سورة المائدة : 38 .
على‏ المرأة الالتزام بالاخلاق والعفة والفضيلة وترفعهُ عن الرجل كي نخدع أنفسنا ونجيز له العمل السياسي دون المرأة .. فالكل مطالب بأخلاق الإسلام ومن أي جنسٍ وموقع ، سيما وأن (التقوى‏ اللازمة للجميع لهي أكثر لزوماً للمسؤولين) - الإمام الخميني‏2 .
نساءاً ورجالاً .
ان الحجاب ليس مانعاً أو حاجزاً لدخول المرأة الحياة السياسية ، فهو لم يمنع السيدة فاطمة الزهراء سيد نساء العالمين وربيبة الوحي والتنزيل من دخول مسجد الرسول‏9 لتُدين الباطل وتطالب بالحق ، كما ان الحجاب لم يمنع السيدة الحوراء زينب‏3 أن تقف في كربلاء والكوفة والشام وتنطق بالحق وتفضح الباطل .
كذلك نرى‏ ان الأُمومة لاتمنع المرأة من المشاركة في معارك الجهاد والتحرير من الطغاة ، مثلما هي الأُبوة لم تمنع الرجل من ذلك ، وان الأطفال والمسؤولية العائلية ليست أعذاراً شرعية لعدم قيام المرأة بواجباتها تجاه دينها ووصايا رسولها .
كل العقبات تزول أمام ثقافة التنظيم ونبذ الاعتياد على‏ ثقافة التبرير .. فالتاريخ يصنعه الأفراد لا الجماعات فحسب ، لذا رخّص الرسول الأكرم‏9 للمرأة حضور المساجد وصلوات الجماعة ، فكنّ يصلِّين الجماعة خلفه حتى‏ في صلاة الفجر ، بل وافق على‏ خروج المرأة معه في معاركه يُداوين الجرحى‏ ويسقين العطشى‏ ويقاتلن العدا ، فقد دخل الكثير من النساء ساحات القتال وحقَّقن انتصاراً ، لان على‏ المسلم ان لا يقف على‏ الحياد .. لذا نرى‏ أن الرموز الاستنهاضية وعلى‏ مدى‏ التاريخ فيها الكثير من النماذج النسوية وان التاريخ قد سجّل للمرأة أدواراً شامخة ومواقع متميزة في معركة الحق ضد الباطل .
وبهذه الخلاصة الموجزة نجد ان الإسلام قد منَحَ للمرأة حق العمل السياسي ، لذلك نرجو من أخواتنا العاملات الإفادة من هذه النعمة وذلك بان لا ينقلن انوثتهن خارج محيط البيت ، وان يتفجَّرن بحجاب النفس - فضلاً عن حجاب الجسد - شرفاً وعفّةً وفضيلة ، لاننا مع العفة والاتزان النابع من عقل المرأة وثقافتها الإسلامية ، لا فقط النابع من قطع القماش الاضافية ، وان يبتعدن عن مفاكهة الرجال - كي لا يطمع الذي في قلبه مرض - وعن كل عمل من شأنه أن يكسر - اختلاط المرأة الأنثى‏ (اللاضروري) مع الرجل هو ذاك الذي يجر الى‏ الخطيئة والحرام وليس اختلاط المرأة الإنسانية (الضروري) .
حاجز الحياء والحشمة ، سواءاً كانت أُماً أو زوجة أو أختاً ، وان لا يستهويهنَّ كل لمحٍ كاذب أو وميضٍ خادع ..
وفي الوقت الذي يتعيّن على‏ المرأة ان تتزيَّن وتتّشح بحجاب البدن - بأعتبارها مصدر الاثارة والاغراء - ونوصيها بالتزيّن والتوشّح بحجاب النفس والتقوى‏ ، نوصي أخوتنا الرجال بالحجاب الأخلاقي ، كي يغضّوا أبصارهم ويحفظوا فروجهم ، سيّما ان (التقوى‏ اللازمة للجميع لهي أكثر لزوماً للمسؤولين) .
- الإمام الخميني‏2 .
لذا على‏ المرأة المؤمنة الهادفة ان تعيش واقعها وتعطي رأيها وتشارك أُخوتها في مكافحة انحرافات المجتمع وبالتالي تساعد في بنائه بناءاً صحيحاً ، وأن تحذف كل تلك التخرّصات غير الواعية ، الناتجة عن سيطرة الذهنية الذكورية من قاموس حياتها وتطلعاتها ، لان «لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق» و «من مات ولم‏ -
يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم» و «مَن أصبح لايهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم».
- حديث شريف ، الكافي ج‏2 / 163 .

نماذج قرآنية نسوية
منذ انطلاقة كلمة الحق نشب الصراع بين أهله وأهل الباطل ، وكان دور المرأة الجهادي ضد القهر والاستبداد مبكراً ، فالمرأة وبكل مراحل التاريخ ومنذ بدء الخليقة قد عاشت آلام الظلم وقاسته ، كما عاشه الرجل وشاركت في اصلاحه وتقويمه كما شارك الرجل ، لذا أحرزت موقعاً رائداً على‏ خارطة المقاومة والجهاد ضد الطغاة وعلى‏ مر التاريخ وأضحت شمساً في سماء التضحية والفداء ، فخلدت لها صفحاته أروع آيات البطولة وأسمى‏ ملاحم الفداء .
وان الحديث عن تلك النسوة هو الحديث عن المُثُل الرائدة والقيم السامقة ، لذا ففي الوقت الذي نُبيِّن فيه دورهن العريق والعميق في مقارعة الطغاة وتقويم الانحرافات فنحن في ذات الوقت نقرأ التاريخ لنستلهم العِبرة والعِظة .
أخي القارى‏ء الكريم‏
تعال معي لارينَّك صوراً لنساء هي حسبك عن الاطالة ، قد مَنَّ الله عليهنَّ بملازمة حركة الأنبياء ، فقدَّمن من الجهد والاسناد ما جعلهنَّ شموع مسيرة ومشاعل نور تُضي‏ء الدرب للاستقامة والصلاح :
* سارة : لم تكن هذه المرأة الصالحة زوجة لسيدنا النبي إبراهيم‏7 فحسب بل كانت رفيقة دربه وناصرة منهجه وداعية رسالته .. لقد صاحبته في هجرته الى‏ الشام ومصر وساندته في جهاده وصابرته في معاناته .
* هاجَر : حدّثنا القرآن الكريم عن الدعم والمساندة التي قدمتها (هاجر) الزوجة الثانية لنبي الله إبراهيم‏7 والتي جاء بها من أرض مصر .
* أم نبيَّ الله إسماعيل التي احتضنته وربّتهُ في تلك الظروف القاسية الصعبة - في وادٍ غير ذي زرع - ليكونَ أباً لأعظم نبيٍّ في تاريخ البشرية جمعاء .
* يوكابد (أُم موسى‏7) : حدّثنا القرآن الكريم أيضاً عن تلك المرأة الصالحة (أُم نبي الله موسى‏7) . وكيف نفَّذت الأمر الإلهي وتحدّت القرارات الجائرة للفرعون - طاغية مصر القديمة - بلا أدنى‏ تردّد ، لتحفظ بذلك النبي (موسى‏) الذي أُعيد اليها تكريماً ووفاءاً ثم ليحطّم على‏ يديه أعظم طاغوت عرفته البشرية . (إنّا رادّوه اليكِ) .
- سورة
* حنّة زوجة نبي الله عمران‏7 : التي صبرت على‏ أذى‏ كهنة المعبد ونذرت ابنتها السيدة مريم (ع) خادمة لبيت المقدس (إنّي نذرتُ لكَ ما في بطني محرّراً)
- سورة
* اليصلجات (زوجة نبي الله زكريا7) ، التي لاقت الكثير من الآلام بسبب مضايقات قومها لها ولزوجها واتهاماتهم بالكذب والتي كرّمها ربها ورزقها على‏ الكبر النبي (يحيى‏) . ( ) .
- سورة : آية .
* بلقيس ملكة سبأ : المرأة القدوة التي حكمت قومها وقادتهم - قيادة واقعية لاشرعية - بحكمة ومشورة .().
* آسية بنت مزاحم : حدّثنا القرآن الكريم عن هذه المرأة الصابرة المحتسبة - زوجة فرعون - التي زهدت في مُلك الدنيا وتحدَّت طغيان الفرعون ورفضت نعيمه الزائل .. فهي تلك المرأة الثائرة التي صرخت في قصر الجور والارهاب وقالت : (ربِّ ابنِ لي عندك بيتاً في الجنة ونجِّني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين)
- سورة التحريم : 11 .
* السيدة مريم بنت عمران‏3 : تلك المرأة المقدسة (أم نبي الله عيسي‏7) التي أخلصت قلبها لله .. فجعلها وآسية مُثُل رائدة كما جاء في قوله : (وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت ربِّ ابن لي عندك بيتاً في الجنّة ونجّني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين . ومريم ابنت عمران التي احصنت فرجهإ؛ئ فنفخنا فيه من روحنا وصدّقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين) .
- سورة التحريم : 11 - 12 .
إذ نجد في هاتين الآيتين عظيم الاجلال لهاتين الشخصيتين - مريم وآسية - باعتبارهما يمثلان أنموذج المرأة الصالحة القدوة - للرجال والنساء - سواءاً في المجال العقائدي أو السياسي .
* سُميّة زوجة ياسر : وهي أُم الصحابي الجليل (عمار) التي كفاها سموّاً وخلوداً أن كانت أول شهيدة في معركة الإسلام ضد الرجعية الوثنية .
* أُم سليم : التي نقل لنا التاريخ أنها اشترطت على‏ مَن خطبها أن يكون مهرها دخوله الإسلام ونطقه بالشهادتين وقد تم ذلك فعلاً .
وهناك عدد كبير من النساء هاجرن الى‏ الحبشة كما هاجر الرجال ، وهاجر من بقي منهنَّ الى‏ المدينة خوفاً على‏ دينهن .
* أُم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد : ويستمر دور المرأة الرائد والمساند في حياة الانبياء ودعوتهم الإلهية ضد قوى‏ الشرك والوثنية ، وتلك السيدة الجليلة التي وهبت كل ثروتها ووجاهتها للدعوة الى‏ الله والى‏ رسوله والتي جسدت قمة الاخلاص العقائدي بتضحياتها الكبيرة وتحمّلت شتى‏ صنوف الأذى‏ والعذاب وعلى‏ مدى‏ عشر سنوات ودخلت مع الرسول الأكرم (الشِّعب) وصبرت على‏ الحصار ومعاناته ولثلاث سنوات .. لذا كرّمها الرسول‏9 واعتبر العام الذي توفيت فيه ب (عام الأحزان) كما كرمها من قبل حين حدّثها عن نبوته ودعوته ، فكانت الأولى‏ في دخول دين الإسلام . وقال فيها الرسول‏9 : «ما استقام أمر الإسلام إلّا بمال خديجة وسيف علي» .
- حديث شريف .
نعم ، فتلك المرأة الجليلة لم تغب عن عقل الرسول ولا روحه سواءاً في حياتها أو بعد مماتها حتى‏ وصل في إكرامها ان قال بحقها : (اني لأُحب حبيبها) .. فالرسول‏9 لم ينس ما قدمت هذه المرأة القدوة من تضحيات حتى‏ بعد وفاتها ، إذ نجد ذلك واضحاً في ردّه على‏ زوجته (عائشة) التي حاولت التقليل من منزلة هذه‏السيدة الجليلة المجاهدة - بعد وفاتها ، «ما ابدلني الله خيراً منها ، كانت أُمّ العيال وربّة البيت ، آمنت بي حين كذّبني الناس وواستني بمالها حين حرمني الناس ...» .
* السيدة فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين : فقد كرم الرسول الأكرم‏9 دور المرأة الصالحة في ذات (الزهراء فاطمة) وقال : «يؤذيني ما آذاها» .. فهي التي لازمت الرسول حتى‏ في معاركه - فكانت في معركة أُحُد تُضمِّد جرحه - وكانت تشاركهُ همومه وآلامه حتى‏ قال عنها : (أُم أبيها) وهو أعظم شعار يُرفع ليرمز الى‏ حساسية دور المرأة في دعوات الانبياء والرسل والمصلحين ..
ولم ينته دور الزهراء حتى‏ بعد رحيل الرسول ، فقد واصلت نصرتها لمنهج الحق وحربها لخط الباطل ، ومن خطبتها في مسجد الرسول - بعد وفاته - بعد أن تصدّت لأبي بكر وعمر وطالبتهما بفدك لفضحهما ولتنبيه الغافلين من المهاجرين‏ - ان كانت السيدة الزهراء3 تؤكد على‏ (فدك) فهي في الحقيقة تؤكد على‏ منهج الثبات والاصرار على‏ الحق والثورة لاجله وإلّا فلاقيمة لفدك في طبيتعها المادية .. وهذا ما عبّر عنه الإمام الكاظم‏7 لاحد خلفاء بني العباس حينما أراد إعادة (فدك) له : «حدود فدك هي حدود البلاد الإسلامية كلها» إذن (فدك) رمزاً لقضية وليست مَطالب ماديّة .
والانصار : «ياابن ابي قحافة أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي ؟! لقد جئت شيئاً فرياً !! أعلى‏ عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم ؟...» .
لذا لم تداهن مَن ظلمها وهي على‏ فراش الموت ، بل حتى‏ في وصيتها فقد أوصت أن تُدفَن ليلاً وأن لا يشهد جنازتها أحد الذين ظلموها - كاحتجاجٍ صارخٍ خالد - وذلك لتأصيل نهج الرفض والثورة ضد الظلم والظالمين .. لذا سيبقى‏ قبرها المغيّب شاهداً حيَّاً والى‏ الأبد - على‏ الثورة ورفض الظلم .
* نسيبة بنت كعب الأنصارية (أُم عمارة) : وهي السيدة المجاهدة الجليلة القدر الكبيرة القلب الشجاعة ، كانت تداوي الجرحى‏ وتسقي العطشى‏ وتقاتل العِدا ، فقدت جاهدت وقاتلت بين يدي رسول الله‏9 في غزوة أُحُد وقال‏9 عنها : «ما التفتُ يميناً وشمالاً إلّا وأنا أراها تُقاتل دوني» .
وقد قاتلت يوم اليمامة ففقدت إبنها وقطعت يدها ولم تترك ساحة الحرب ! حتى‏ قال رسول الله‏9 فيها : «ومَن يُطيق ما تُطيق أُم عمارة» .. وحينما انتهت المعركة سأل‏9 عنها وتفقَّد جِراحها وفَرِح لشفائِها .
* رفيدة الأنصارية : التي كانت لها في زاوية من زوايا مسجد الرسول‏9 خيمة (كمركز طبّي) تُضمِّد فيه الجرحى‏ وتُعالج المرضى‏ في حرب الخندق .
* صفيّة أُخت الحمزة : شهِدَت غزوة أُحُد تُطبِّب وتداوي ، فلمّا انهزم المسلمون قامت وبيدها رمح تضرب بهِ وجوه القوم وتقول : «انهزمتم عن رسول الله» . وقفت هذه السيدة الصابرة على‏ جسد أخيها (الحمزة عم النبي) موقف الجبل الشامخ - موقف الإنسانة الواعية الصابرة لا الأُنثى‏ المولولة - ثم صلّت عليه واسترجعت واستغفرت له .. بعدها بكته ورثته - كما يفعل الرجال - وقالت :
فوالله لا أنساك ماهبّت الصفا
بُكاءاً وحُزناً محضري ومسيري‏
* وهنأك العديد من النساء المجاهدات اللاتي فاقت مواقفهن مواقف الرجال ، مثل (معاذة الغفارية) و(أُمية بنت قيس بن الصلت الغفارية) و(أُم سليم) و(أُم العلا الأنصارية) و(أسماء الأنصارية) و(كعبية الأسلمية) و(فاطمة الفهريّة) وغيرهن .
* السمراء بنت قيس : التي استُشهد إبناها فعزّاها النبي‏9 بهما فقالت له : «كل مصيبة بعدك جَلل .. والله لهذا النقع الذي في وجهك أشد من مصابهما ..» .
* الخنساء : وهي المرأة المعروفة التي دفعت بأبنائها الأربعة الى‏ سوح الجهاد ، وحينما وصلها نبأ استشهادهم جميعاً لم تذرف عليهم دمعة واحدة ، ولانها هي التي بكت أخاها (صخراً) أربعين عاماً سُإلَت فأجابت : «إن أخي مات على‏ الكفر فهو في النار ، ولذلك بكيت عليه ، أما أولادي فقد ذهبوا الى‏ الجنة فلماذا أبكي عليهم ؟!» .
* سودة الهمدانية : التي خرجت وبعض النسوة مع أمير المؤمنين يوم صفين ، وكانت تقول الشعر لتثير روح الحماس في جيش الإمام‏7 .
* جويرة بنت أسماء : استشهد أبناؤها الثلاثة في معركة خيبر فلما بلغها الخبر قالت : (مقبلين أم مدبرين) فقيل لها : بل مقبلين . فقالت : (الحمد لله نالوا والله الفوز) وما تأوّهت ولا دمعت لها عين .
* آمنة بنت الشريد : التي اعتقلها زياد بعد أن تولى‏ إمارة الكوفة وطلب زوجها الهارب ليقتله .. وعندما ظفر به قطع رأسه وبعث به الى‏ معاوية - وهو أول رأس ظيف به في الإسلام - الذي بدوره بعثه الى‏ زوجته السجينة (آمنة) ، فالقي في حجرها .. احتضنت الرأس غير جازعة ولا مولولة ثم وضعت كفها على‏ جبهته ولثمت فمه وقالت : «غيبتموه عني طويلاً ثم أهديتموه لي قتيلاً .. فأهلاً به هدية غير قالية ولا مقلية» .
كما أن هناك نساء حسينيات تركن آثاراً واضحة على‏ لوحة الزمن ، نُدرج بعضاً من فيض عطرِهنَّ :
* طوعة الكوفية : المرأة التي آوت غربة سفير الحسين (مسلم بن عقيل) بعد أن غدر به أهل الكوفة ، فكان وحيداً لا نصير له سوى‏ هذه المرأة الصالحة الشجاعة .
* زوجة عبدالله بن عُمير : التي خرجت مع زوجها تريد القتال مع أنصار الحسين‏7 ، قائلة : «لن أدعك دون أن أموت معك .. قاتل دون الطيبين» وهي أول إمرأة قُتلت في كربلاء .
* دَلهم بنت عمرو : وهي زوجة زهير بن القين التي خلّدها التاريخ لموقفها المشرِّف في إقناع زوجها بالانضمام الى‏ أنصار الحسين‏7 يوم كربلاء بعد أن كان مُعرِضاً عن الاستجابة لدعوة الإمام الحسين متحاشياً اللقاء به باعتباره كان عثماني الهوى‏ !
* أُم وهب (بنت حباب الكلبي) : وهي إمرأة كبيرة السن ، قالت لولدها يوم عاشوراء : «قم يابني فانصر ابن بنت رسول الله‏9» رغم ان الإمام الحسين‏7 منعه خوفاً من جزع أمه لمقتله .. وعندما قُتل أخذت عمود الخيمة وبرزت تقاتل الاعداء لولا أوامر الإمام بأن ترجع فرجعت .
أما زوجته فقد جلست عند رأسه تمسح عنه الدم والتراب وتقول : «هنيئاً لك الجنة أسأل الله الذي رزقك الجنة أن يصحبني معك» فسمعها المجرم (الشمر) فأمر غلامه (رستم) بضرب رأسها بالعمود فضربها وماتت في مكانها .
* زوجة جنارة بن الحارث : التي أمرت ابنها أن يقاتل دون الحسين‏7 فقُتل كما قُتل أبيه .
* موقف نساء بني أسد : لإقناع وتحريض أزواجهن على‏ نصرة الحسين‏7 وأصحابه ونبذ الخوف من جور ابن زياد ، ولما يأسن من ذلك أجبرنهم على‏ مواراة أجساد آل الرسول‏9 .
* زينب بنت الإمام أمير المؤمنين‏7 : بطلة كربلاء التي حملت رسالة ثورة الحسين‏7 بعد استشهاده ، وفارسة الموقف المكلّفة برعاية جميع النساء الثكالى‏ والاطفال اليتامى‏ .
وأي شخصية قيادية تمتلك من خصال وصفات القائد مثلما امتلكت عقيلة بني هاشم - من عقلٍ وصبرٍ وتحدٍّ - وهي التي وقفت في وجه الطاغية بن زياد الذي ناداها متشمّتاً : (كيف رأيتِ صنع الله بأهل بيتك ؟) . فقالت له باباءٍ وشموخ : «مارأيت إلّا جميلاً ، قوم كَتب الله عليهم الجهاد فبرزوا الى‏ مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم وتنظر لمن الفلج ..» بل وهي التي خطبت في أهل الكوفة مُقرِّعةً الجبناء الغدرة والمتخاذلين الخونة .. أما في مجلس الطاغية يزيد - بالشام - فقالت: «كُد كيدك واسع سعيك وناصب جُهدك فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ولاتُدرك أمدنا» .
* النوّارة بنت مالك الحظرمي : التي ثارت بوجه زوجها اللعين (الخولي بن يزيد الأصبحي) الذي حمل رأس الإمام الحسين‏7 الى‏ بيته بالكوفة على‏ أملٍ أن يقدّمه - هو وحميد بن مسلم الأزدي - في الصباح هديةً من ابن سعد لابن مرجانة.. فقالت عبارتها المعروفة : (والله لايجمع رأسي ورأسك شي‏ء أبداً) .
* النوّار زوجة كعب بن جابر الذي عندما رجع من كربلاء قالت له : (أعنت على‏ ابن فاطمة وقتلت سيد القرّاء ، لقد أتيت عظيماً من الأمر .. والله لا أكلمك من رأسي كلمة أبداً) .
* عاتكة بنت يزيد : التي أخذت رأس الإمام الحسين‏7 وأزاحت عنه التراب وطيّبته .
* دُرّة الصدف بنت عبدالله بن عمر الأنصاري : الفتاة الفارسة التي حرّضت عشيرتها والأقوام المحيطة بها لقتال جيش الأمويين الذي وصل مشارف حلب وذلك لتخليص رأس الإمام الحسين‏7 وتحرير السبايا (النساء والأطفال) .. وقد نهضت معها وناصرتها سبعون فتاة أبرزهنَّ (نائلة بنت بكر بن سعدٍ الأنصاري) و(يمانة) وأمها .. قاتلن كاللبوات وقتلن العديد من جيش الطاغية يزيد حتى‏ استشهد أغلبهن وعلى‏ رأسهن دُرّة الصدف .
* هند بن عمرو : زوجة الطاغية يزيد التي حينما علمت بأمر رأس الإمام الحسين‏7 والسبايا ، فزعت الى‏ مجلس يزيد مذعورةً ورفعت صوتها استنكاراً واحتجاجاً .
ويستمر دور المرأة في البطولة والتضحية وتحتل موقعاً بارزاً في تاريخ جهاد الحركة الإسلامية المعاصر فيتألق في سماء الدعوة الإسلامية نخبة من نساء العالمين العربي والإسلامي اضطلعن بمواقف رسالية تاريخية فريدة سميا في إيران ولبنان وفلسطين والبحرين وتركيا.
أما في العراق فقد واصلت المرأة دورها الفاطمي الزينبي رغم كل ما فرضوا عليها من قيودٍ لم ينزل الله بها من قرآن باعتبارها إمتداداً لتلك الروافد الميمونة ..
فوقفت في ثورة العشرين مواقف بطولية كبيرة حيث ساهمت بشكلٍ فعّال مع أخيها الرجل بتقديم كل ما تملك لدعم الثورة وطرد الانجليز المستعمرين ..
كما اشتركت في انتفاضة صفر عام 1977م وانتفاضة رجب عام 1979م وانتفاضة شعبان عام 1991م ضد الحكم البعثي الأموي الغاشم الذي مَثَّل أخطر المسارات السياسية في تاريخ العراق المعاصر في محاربة الإسلام وحرائره واخضاعهن لصنوف القهر والارهاب والعذاب ..
ومازالت المرأة العراقية المسلمة تواصل طريقها الجهادي في أقامة حكم الإسلام على‏ أرض المقدسات ، فقد آزرت أخاها الرجل ووقفت الى‏ جنبه حتى‏ نهاية الدرب - درب ذات الشوكة - وشاركته حتى‏ في زنازين التعذيب وفي أحواض التيزاب وعلى‏ أعواد المشانق .. وكانت - ومازالت - الشهيدة الكبرى‏ العلوية بنت الهدى‏ أبرز علامة للصحوة الإسلامية النسوية المضيئة في سماء الثورة الإسلامية في العراق ، واعتُبرت الصوت الثائر المدوّي لثورة الإمام الصدر1 ، التي أورقت آلاف الشتائل الزينبية والسيوف الحسينية ..
لقد أُريقت الدماء الزكية على‏ أرضنا الطاهرة - أرض علي والحسين - سيّما في سني الثمانينات الأولى‏ ، ورسمت لنا فوق الثرى‏ قصصاً رائعة رائدة من قصص التضحية والإيثار ، وكأن بناتنا لم يُخلقن إلّا للذبح ! حتى‏ وكأن الصحراء قد تململت وضجّت لكثرة ما دفنوا في أحشائها من حرائر وزينبيات ! بعد أن أصبحت الزهراء وزينب الكبرى‏ مثلاً أعلى‏ من ضمير المرأة العراقية المسلمة .
ومازال انموذج زينب يتكرر في نصيراتها ومريداتها اللاتي سرن في خطها وعلى‏ منهجها ، فلم يعيقها التعذيب والاستشهاد ولم تتعبها الهجرة والترحال ولم تصدّها البحار وسمك القرش ، الى‏ أن يأذن الله ببلوغ المرحلة النهائية الحاسمة - لقد ابتلعت البحار والمحيطات الكثير من ابناء العراق ، فالبحر الأبيض التَهَم سهمه والناس في غفلة ، وسواحل أندونيسيا ابتلعت في لحظةٍ واحدة مايقارب الأربعمائة عراقي أو يزيد حين تحطّمت سفينة كانت تقلّهم باتجاه السواحل الأسترالية ، ولازالت أسماك القرش تنتظر مايسدّ رمقها من لحوم أبناء العراق المفجوع .
في هذا الصراع والتي ستتم تحت راية قائم آل محمد9 .

مرايا الجِراح .. ولكن !
ما ان غادرتُ الوطن - قسراً - ووصلت المَهْجَر حتى‏ انفجرت مكامن الألم والعتب .. فالمهجر الذي نظرت اليه كما نظر اليه بقية ابناء شعبي بعين الأمل ، إذا به محطّة الألم ، والمهجَر الذي كنتُ أتمنى‏ ان نُضمِّد فيه جراحنا ، اذا به مرتع الترهُّل واللامبالاة !
كيف نتداوى‏ به وهو داؤنا ؟! كيف ننتزع الشوكة بالشوكة ؟!
نعم ، ما ان وطأت قدماي أرص المَهْجَر حتى‏ روّعتني الحقيقة المُرَّة .. لقد بَدَت النفوس شحاحاً وتبدّلت الطباع الطيبة جفاءاً ، وغدت المكاسب السياسية هدفاً ، والانتماءات الضيقة رباطاً ، وتراجعت أواصر المحبّة واندثرت وشائج المودّة، واختفت شركة المحنة ، وانطمست لحمة السجون وسدى‏ الزنازين .
لقد أذهلتني حالة بعض أخواتنا السجينات الغاليات اللاتي وصلن المهجر قبل عقدٍ ونصف من السنين ، كيف انقلبت عندهن نظرة الأخاء والرحمة التي غمرتنا في زنازين (الأمن) وغرف (الرشاد) فعهدي بهنَّ كالبنيان المرصوص ، كالجسد الواحد ، كاليدين تُغسِّل إحداهما الأُخرى‏ .. بل كيف غُيِّبَتْ جِراحنا واندثرت وصايا شهيداتنا ؟! فعهدي ب (الرشاد) مدرسة الصلابة والشموخ التي تخرّج منها راهبات متبتلات في الليل ، وزينبيات ثائرات في النهار ..
ماذا جرى‏ ؟! أحقيقة ما أرى‏ أم أن هذا خيال نسجته أوهامي ؟
كان المؤمَّل أن تكون عيوننا - أينما نُهاجر - مرايا لجِراح الشهيدات ، وكان المُعوَّل أن نكون صوراً قانيةً تلهج بعذاباتهن ودمائهن الزكية ..
أنسينا أننا جئنا الى‏ هذه الفلوات مهاجرات لا حالمات ! أشنقَ فرعون العراق حتى‏ ذكرياتنا عن مآثر الشهيدات ؟! أغرقنا في الدنيا لتغرق معنا صور وذكريات ، ماكنا نظن أنها تمحى‏ من صفحة الذاكرة ، مهما تراكم عليها غبار الزمن الكالح ، وعصفت بها رياح الدهر الخؤون .
لِمَ هذا التناسي واللامبالاة لصويحباتنا الشهيدات .. فهل خرجنا من (الرشاد) كما يخرج الموتى‏ من الدنيا ؟ ونُساهم بأيدينا لكي تندثر تلك المرحلة الجليلة من تاريخ جهاد المرأة العراقية المسلمة ، أم نسينا تلك العهود والمواثيق لأننا ابتعدنا عن طاحونة العذاب وصرنا بمنأى‏ عن المحنة وأنياب الذئاب ؟!
وإن أعتب ، فانما عتبي على‏ اللواتي سبقننا الى‏ أرض المهجر ، ثم انني انما اسمح لنفسي بلوم صويحباتي لأنني شريكة المحنة ، ولأحساسي بأننا قبل غيرنا المسؤولات أمام الله والتاريخ عن تلك الأمانة المقدّسة والحفاظ على‏ أرشفة ذلك السفر الجليل ، سيّما بعد أن تكحّلت عيوننا وعقولنا بمُحيّاهن وعظيم تضحياتهن .. ولأننا قبل غيرنا قد اطّلعنا على‏ سجل جهادهن وبشاعة جلّادهن .. فالمرأة العراقية كانت للنظام البعثي الحاكم ومازالت عدوّاً شرساً لم تُخرسه الاعتقالات ولا الاعدامات ولقد قدّمت من العطاء والفداء - خصوصاً في النصف الأول من عقد الثمانينات - مالم تُقدِّمهُ نساء المعمورة جمعاء ، بل والرجال أيضاً ، وأدلَّة ذلك لا تُحصى‏ ، وما سلسلة «مذكرات سجينة» إلّا فيض من غيض إيثارهن ، وعذب سيرتهن .. فقد عانت المرأة العراقية من ويلات التعذيب في طوامير مغول البعث مالم يخطر بال بشر وارتقت حبال المشانق في (أبو غريب) وهُجِّرت وهاجرت كالرجال تماماً حذو القُذَّة بالقُذَّة بل وتزيد على‏ ذلك .
لكن هذه العملاقة التي صارعت الطاغوت بعنفوان مذهل قد وأدها الرجل في أرض المهجر بقرار غير مُعلَن - وربما غير مُتعمَّد - ووضعها في قوالب ضمن رؤاه الجديدة ، حتى‏ انها لم تستطع أن تتخطّى‏ سجنها الجديد وتنتفض على‏ قيودها الحديثة ، فاصبحن اسيرات أفكارٍ مهجرية بائسة ، ورهينات مواقف فئوية ركيكة ، هكذا صنع رجل المهجر من النساء العراقيات بما فيهن السجينات ولم تتحرك تلك العزيمة الشماء التي خلفناها في سجن الرشاد ، لتوقظ في الرجل همته ، وتوقد نار الغضب بين جوانحه ، ليواصل مع شريكة رسالته مشوار العمل والجهاد .
ومن هنا كان عتبي على‏ أخواننا في أطياف الحركة الإسلامية كلها لهذا الاهمال الغريب لشهيداتنا العزيزات ، عتب تطول معه الملامة ويكثر فيه العذل ، لان الكتابة عن الشهادة عهدٌ مع الله وعقدٌ مع الشهيدات ورسالةٌ الى‏ الجيل الفاتح من أبناء العراق البواسل ، ثم إن الحبال التي التفّت على‏ رقاب رجالنا هي عينها التي طالت أعناق أخواتنا .
فواأسفاه على‏ أيام المهجر وسنينه وما فيها من فوضى‏ ورتابة ، كيف راحت تطوي مآثر شهيداتنا وتخفي شمس تضحياتهن وتدفن سجلَّ الأمجاد في مقبرة النسيان ، حتى‏ بات الجيل المهجري من بناتنا لايعرف عن رائدات العراق وشهيداته المنسيّات سوى‏ العلوية الفاضلة (بنت الهدى‏) وفي أحسن الحالات يُعرَف معها الشهيدة الجليلة سلوى‏ البحراني !! أما عداهنّ فلا يعدو ان تكون أساطير من نَسج الخيال !!
لِمَ كل هذا البخس وملحمة العراق الجهادية أضخم ميراث في دُنيا الفداء والعطاء وأعظم سفر للمجد والبطولة ؟ أنجب خطّاً ملأَ العراق ثورةً ودماً زكياً سيظل يتوهَّج نوراً عِزّاً وسنا فخراً مدى‏ الأيام .
ولهذا فأننا نشكوا همَّنا وحزننا الى‏ الله ونشكوا ظُلم عدونا كما نشكوا ظُلم ذوي القُربى‏ - رجالاً ونساءاً - لشهيداتنا الخالدات .
ان فاجعة غياب ذكر شهيداتنا الزينبيات عن كتب الأدب والشعر ، ولعقدين ونيف من السنين ، تُعَد جُرحاً غائراً لايُبارح المهُج ، وهذا الغياب جريمة يلفح لظاها وجوهنا جميعاً ، لأنه أكبر من جريمة الطغاة في حق الشهيدات ، فاولئك أعداء متجبرون ، كل ما يصدر منهم يهون .. أما نحن ، فالويل لنا ، كيف ننسى‏ جراحنا وننام على‏ رفاة شهدائنا بقلوب مطمئنة واجفان ناعسة !!
وسوف لن ينفعنا الاعتذار ولن يفيدنا التبرير ، ولن تبرأ ساحة جريمتنا بالتمسك بالقصور والتقصير ، كل ذلك لن يشفع لنا أمام الله وبنات الزهراء3 .
إن أخطر حالات الموت هو خَدَر الإرادة وأفدح الخسائر ضياع الهدف وأبخل الناس مَن بخل بذاكرته وذكرياته عن ذكر مآثر شهيدات الأمس القريب ..
- رجوت أغلب اخواتنا السجينات متوسلة وبألحاح شديد أن يفتحن دفاتر الذكريات القديمة للمشاركة في الصفحة النسوية المخصصة لشهيداتنا والتي وفّرتها صحيفة «الكلمة الحرّة» عام 2000م ، ثم وجّهت لهنَّ دعوة مخلصة من خلال العدد السادس للمشاركة في إستثمار هذه الفرصة التي اتيحت لنا في إحدى‏ صحف المهجر ، بعد عقدين من البخس والتغييب لشهيداتنا الغاليات .. فكانت النتيجة ؛ الامتناع واللامبالاة وعلى‏ مدى‏ عام كامل ، لأن القلوب قَسَتْ وذكرياتها مع الشهيدات تآكلت واندثرت !
ثم كرّرتُ المحاولة عام 2001م وأدرجنا في نهاية كتاب «الفضيلة عذراء أبداً» الصفحة (251) رجاءاً طلبنا فيه المشاركة في المشروع وبأيِّ خاطرة مهما كانت متواضعة وتركنا عنواننا البريدي الالكتروني ، ووصل الكتاب جميع مهاجر العالم .. ولكن كانت النتيجة ؛ سيّان !!
فأي عُذرٍ ذاك الذي يجعلنا ننسى‏ مشاعل النور التي أضاءت درب العراق المظلم بجور المستبدّين ؟! أن نتناسى‏ ذلك النهر العذاب الرقراق الذي سقى‏ شجرة الحرية والإسلام . إن شهيداتنا وان كُنّ في ملفّات النظام مُجرّد أرقام ، لكنَّهن عندنا منارات هُدىً ومآذن تُقى‏ ، عيوننا ترحل اليهن كُلَّ يوم ، وستبقى‏ وصاياهنَّ دليل صلاح ومعالم رشاد عرفها تاريخ العراق المعاصر .
فشهادتهن ليست الحدث الماضي فحسب بل الماضي الذي يبني حياة المستقبل فتتكامل وتكتمل به .. ونحن مازلنا نأخذ الدف‏ء من شمس أفكارهنَّ وصدق نواياهن ، ونسترشد بدمائهن لأزاحة ليل العراق المرخي سدوله على‏ مرابع أهلنا الطيبين .
فلتعلموا أن أرض بلادي التي اختلطت ترابها دماء أبي الأحرار الحسين واحتضنت مياهها أكُف أبي الفضل العباس لم تزل خَصْبة معطاءَة تنبت وروداً وزنابق قانية .. وسيبقى‏ هذا الخط منهجاً في عقولنا وحنيناً في قلوبنا ، حتى‏ يحكم الله وهو خير الحاكمين .
ولتعلموا أيضاً أن شهداءنا وإن كانوا في المهاجر مُغيبين ، لكنهم مازالوا في قلوب شعبنا ابطال الأمة المقدّسين ، يرتسمون في أحداق الصبايا مشاعل نور وفي قلوب الاشبال ليوث وغى‏ ، لن تغيب شمسهم ، ولن ينطفأ شعاع قبسهم مهما امتدت سني العذاب ، وأيام المحنة .
واذا كان واقعنا في المهجر يقول ؛ إننا قد عجزنا حتى‏ الساعة عن اسقاط فرعون العراق ، فإنه يقول ايضاً أنكم لم تعجزوا بعد عن نشر جرائمه واعلان فضائحه . إنكم إن عجزتم عن احقاق الحق فلن تعجزوا عن زراعته في القلوب والعقول .. فلا تدَّخروا ما عندكم من بذور الذكريات ولا تمنعوا عن حرثكم الماء المزن ، لأنكم بدون هذا سوف لاتستطيعون - ولو آجلا - ان تشعلوا سراجاً بلا زيت أو تنيروا درباً بلا شموع !
ولستُ أُغالي إذا قلت إننا الآن بحاجة الى‏ إحياء ثقافة الاستشهاد وتفعيل ذكريات الشهيدات أكثر من أيّ وقت مضى‏ ، سيّما ونحن الآن - مع الأسف - نعيش فقراً حقيقياً فى توفُّر أمثلة التضحية الحيَّة التي يمنحنا وجودها حرارةً وقوة .
ولي رجاء وبقيّة أمل أن يَمُدَّ لي جميع المعنيين ، وبالخصوص أخواتي السجينات ، يد العون لتوفير المعلومة المجهولة عندي وعند غيري فيما يخص شهيدات العقيدة لأن من يُخرج من كنز ذكرياته خواطر عن المضحِّيات ، انما يمنح أُمته حياة جديدة تؤطرها البطولة وتتلفع بالمروءة .
إن هذا المشروع المبارك يُساهم في حفظ حق المجاهدات اللواتي عطَّرن‏ - مشروع «مذكرات سجينة» يتكون من ثلاثة أجزاء ، تم انجاز جزأين ونأمل - بالتعاون - إعداد الجزء الثالث باذن الله . المؤلف
أرض العراق بعبير دمائهن ويؤصِّل في في نفوس جيل شبابنا كل معاني التحدي والرفض لجلّادي الشعوب .
اللهم اجعلنا ممن هدوا الى‏ الطيب من القول وهدوا الى‏ صراطٍ مستقيم .

قلماً نقيّاً .. وقضاءاً حتميّاً !
أخي القارى‏ء الكريم
ما أن حطَّتْ رحالنا - أنا وزوجي - في أرض المهجر حتى‏ بدأنا نبحر بزورقنا في أمواج محيط الذكريات المؤلمة ، محاولين بلوغ الساحل ، لنبدأ مشروع الكتابة بما تجود به مآقي العيون عن خواطر العفة والبطولة والشمم ، بعد أن طوينا ذلك السجل سنين طوال .. فباشرنا الكتابة في صحيفة «الكلمة الحرّة» الموقرة .. وبعد أن توقفت الصحيفة قرّرنا مواصلة العمل لأكمال مابدأناه ..
- صدر العدد الأول من صحيفة «الكلمة الحرّة» بتاريخ 27/ربيع الثاني/1421ه وأُغلِقت - وهي شامخة - بعد العدد الحادي عشر الصادر بتاريخ 17 / ربيع الثاني/ 1422 ه .
لذا توكلت على‏ الله بجهد المُقل ، وقدّمت لرفيق محنتي وحياتي ، وعلى‏ طبقٍ من الوفاء ، مااحتفظت به جراحي ودفاتري من خواطر ومآثر عن شهيداتنا المظلومات .. وأطلقت لذاكرتي المرهقة العَنان لتغوص في عذابات ذلك الزمن الراحل بلا كللٍ أو ملل ، لأنَّ دوي صرخات الشهيدات ترن في فناء عقلي ولأن زنازين الزينبيات ترتسم على‏ الدوام في مخيلتي ، ولأن وقت الامتحان قد حان ، فلتُظهر أقلامنا قدراتها ولتُثبت انتماءاتها . لانرجو سوى‏ الوفاء ولو لقطرةٍ من بحر الدماء الذي وهبنه من أجلنا :
يزداد دمعي على‏ مقدار بُعدهُم‏
تزايد الشُهب إثر الشمس في الأُفقِ‏
الأخوة القرّاء :
ان هذا المشروع المبارك قد لاقى‏ للأسف الشديد من المعوقات منذ ولادته الكثير الكثير ، لأنه يعتمد المعلومة المودَعة في أذهان شركاء الهم من المتصدّين والمعتقلين والمعتقلات والذين تفاوتوا في درجة تفاعلهم مع المشروع ..
فمنهم مَن نسي محنته عندما اندمل جُرحه وتماثل للشفاء ، فقسى‏ قلبه وشحّت نفسه ، حتى‏ بلغ الأمر منهم أن يقفوا من المشروع لاموقف المتفرِّج فحسب بل موقف المُعارِض المُثبِط وأحياناً المُشكِّك المُشوِّه الذي يدعو الى‏ الارتياب في هدف المشروع وانهُ ربما يكون خدمةً للنظام ! لأن هؤلاء بنوا مجدهم على‏ دماء الشهداء ، بما قدّموا من اعترافات مجانيّة منحتهم فرصة حياة رخيصة هادئة وأحياناً مُرفهه مليئة بالجاه والمال ..
وبعضهم لم يُدلِ بمعلوماته لان المشروع لايوثِّق للمنتمين الى‏ دائرته ومديات رؤاه ، بل يوثِّق للشهيدات مهما كان الانتماء ، أو بدون انتماء لافرق في ذلك ..
وبعضهم لم يتفاعل لا لسببٍ سوى‏ أن المشروع قد تصدّى‏ لهُ قلم لم ينتمِ الى‏ صَنَمهِ ، ورفض الترويض للسير في فلكه !
- لانقصد صنماً معيناً دون آخر .. فالأغلب الأعم من المتصدّين والسياسيين المتكتلين في المهجر - وبالذات مهجَر إيران - قد ألِف عبادة الذات أو تقديس الشخصيات ، فهو في شغلٍ شاغلٍ عن كل مشروع لا يمت لفائدته الآنيّة بصلة .
وبعض آخر عاش همومه الشخصية ومشاكله الآنيّة ، فاندثرت الذاكرة تحت رُكام المطالب الصغيرة ومعاناة شظف العيش ومشاكله ..
وبعض آخر نأَت به المَهاجر في أقاصي أرض الله الواسعة ، فلم نجد إليهُ سبيلاً ، رُغم قلّة الامكان وضعف القدرة.
ولأننا كُنّا قد جئنا من أرض الجِراح قريباً ، فأن آلامنا كانت كبيرة كبرَ آلام شعبنا ، شامخة شموخ نخيل عراقنا .. لذا تحلّى‏ رفيق دربي وشريك حياتي بالصبر وتوشّح بالهِمَّة ، متحدِّياً العوائق ، مواصلاً المشوار ، بعزيمةٍ صلبة وإرادةٍ قوية ، متجنباً سفاسف الأمور وتُرّهات الأعمال .. ولأن «على‏ قَدَر الهِمَم تأتي الهموم» - قال أبو الأحرار الإمام الحسين‏7 : «الله يُحب عظائم الأمور ويكره سفاسفها» .
- غرر الحكم : 448 .
و«على‏ قَدَرِ أهل العزم تأتي العزائمُ» فقد امتشق يراعه الرهيف وجرَّد فكرهُ‏ - الشاعر العربي الكبير أبا الطيّب المتنبي .
الحصيف ، يغمس يراعه في مداد المعاناة ، ويلتقط من أفكارهِ مصوغ العبارات .. يبحث عن الحقيقة المُشتّتة في البقاع والصقاع ، يجوب الشوارع ويدور في المدن ويراسل المَهاجر، يُتلفن الى‏ القاصي ويحاور الداني ، مُنقِّباً عن بقيةٍ لذوي الشهيدات ليتنسَّم شذى‏ أرواحهنَّ العَطرات ..
كنتُ أراهُ حريصاً على‏ جمع تجارب تلك السنين الخوالي ، فلم يتأثَّر بالسلوك الجمعي الذي ساد المهجر والذي حسبهُ البعض «قضاءاً حتميّاً» ولم يُكبِّل معصميه بالقيود الفئوية ، أو الذيلية ، لقد تحدّى‏ تيار المحيطات المادية والمعنوية .. ولان روحهُ كانت طافحة بألمٍ آخر ، ولأن ما كان لله ينمو ، فقد حالف المؤلف النجاح في أن يزيح الستار عن التأريخ الجهادي لبنات الرافدين العراقيات وينفض عن سِجِلِّهن غبار الزمن اللئيم ..
لقد كنتُ أجيئَهُ في الليالي الحالكات بعد أن يكون قد مضى‏ من الليل شطره الكثير ، فأجدهُ مستيقظاً غارقاً بدموعه ، غامساً ريشته بدواة آلامه .. يُنضِّدُ لوحةً لمشاهدٍ مروِّعة من فصول التعذيب البربري الذي مورسَ بحق أخواتهِ المظلومات ، يُظَلِّلُ الصورةَ بِلمساتٍ من الشعور الصادق والأحساس المُرهَف ، فيَهَبَها أهاباً جذّاباً يأخذُ بمجامع القلوب ، وكأن قلمه يُجسِّدُ حقيقةً متحرِّكةً لا أنهُ يرسمُ صورةً جامدةً ، خصوصاً وأنّهُ عاش تلك الأحداث وتَنفَّس أجواءَها وولج في غمراتها ..
ولهذا فإنهُ قد سَطَّرَ سِفراً جليلاً خالداً خلود دمائهن الطاهرة التي سيباركها الله على‏ أرض الرافدين ، أرض عليٍّ والحسين ، عندما يزول الطاغوت ويُغنّي طير السعد على‏ روابي عراقنا الحبيب .
ذروة التطابق .. كدمِ الحسين‏
حملتني أجنحة الشوق الى‏ تلك الذكريات ، لأيام (الرشاد) الخالدات ، فاخترقتُ أستار السنين وغبار المسافات وارتسمتْ أمامي أحداث مرَّ عليها عقدان من الزمن المر .. صورٌ حيّةٌ ساخنةٌ محفورة في الروح والذاكرة ، مثّلت عصارة مرحلة ، ونفثات تجربة ، عبّرت عن أقسى‏ وأجل ذكريات العمر ، فتزاحمت المشاهد وتلاحقت الصور ، فكانت .. المذكّرات .
إذن فالمذكرات خميرة من الذكريات كانت حَصاد سنين ثقيلة من السجن كتبتُها على‏ حين غفلة من الزمن العنود ، في ظروفٍ يحلو بجانب مرارتها العقلم .. فهي لم تنطلق من فكرٍ تجريدي ، وليست من نسج الخيال ، بل هي وثائق وحقائق مُنتزعة من ظُلَم الطوامير وزنازين التعذيب وغُرف (الرشاد) .
صفحات كتَبَتها الغيد الحسان والحور الملاح بمداد دمائهن وشموخ تضحياتهن ، لم أُنمِّق فيها شيئاً أبداً ، وكل الذي فعلته أني نقلتها من صفحة الذاكرة الى‏ صفحة القرطاس ، ليصوغها بعد ذلك قلم حليف العمر بأفصح عبارة وأعذب بيان ، مُصوِّراً أحداثها بدقةٍ وعناية ، سابغاً على‏ حكاياها عاطفةً هادرة غير أنها عاقلة لاتُزاحم الموضوعية وأمانة التوثيق ، راسماً بريشته الدافئة صوراً حقيقية خطّتها المرأة العراقية المسلمة ضد نظام الظلم والظلام ، بسلاح الكلمة تارة وبالجهاد الدامي تارةً أُخرى‏ .
صفحات حمراء لجراح مقدّسة ، تحكي قصة الظُلم الذي أحاط بمخدرات عراقنا الحبيب وتتحدَّث عن جَورٍ عاتٍ ، وعن ثورةٍ مذبوحة ..
هي وثائق حيّة لصفوةٍ خيِّرة من فتيات شعبنا مثّلت القيمة القمة في ريادة مسيرة الجهاد والاستشهاد في تاريخ العراق المعاصر ، وعيّنات شاهدة على‏ الموقع الريادي والفاعل الذي تصدّت لهُ المرأة العراقية خدمةً لدينها ووطنها .. فزهدن بملذّات الدنيا واشترين جنّاتٍ عرضها السماوات والأرض أُعِدّت للمتقين ، وقدّمن زهرة شبابهن رافضات حياة الذل في ظل أعتى‏ طاغوتٍ مَرَّ على‏ عراقنا الأبي .. فاستأنسنَ بالشهادة استيناس الطفل بمحالب أُمه ، وترصَّعت صدورهنَّ بأسمى‏ وسام جعله الله لخاصّة أوليائه وهو وسام الشهادة الواعي .
وهي فصل من فصول المقاومة والجهاد في عراق عليٍّ والحسين ، وصورة من الصور المشرقة لأبنة دجلة والفرات ، ومحطة من محطات المجد والفخار في تاريخنا العراقي الإسلامي ، وصرخة من صرخات الصدر وبنت الهدى‏ لعراق ما بعد الثورة الإسلامية في إيران .
زينبيات آمنَّ بمبادى‏ء ثابتة الأُصول متجذِّرة الأُسس غير عائمة ولا وليدة ظروفٍ طارئة ، وحملن رؤى‏ تبلورت عبر عذابات السنين ، فهتفن بكلمة الحق في زمنٍ خرست فيه الألسُن ، وزرعن أرض عراق المقدسات بساتين خيرٍ وفضيلة .. فتيات دخلن المحنة وسرن على‏ الدرب بكثيرٍ من العقل وكثيرٍ من العاطفة ، حملن سموّ القصد وشرف الغاية ، فكانت النوايا صادقة ساطعة كضياء الشمس وكان السلوك في ذروة التطابق مع القناعات والقيم ، فارتقين لنيل الشهادة بتخطيطٍ وتصميمٍ مُسبق .. إنها الشهادة الواعية ، شهادة من يمضي بأرادته الى‏ الحُتوف لا شهادة من تُدهمه المنية رغم أنفه .. سيوف مواضٍ رفعتها أكُف المجاهدين في شتّى‏ مراحل الصراع - الاجتماعية منها والسياسية - إنَّهنَ بنات الصدر حفرن على‏ صدر العراق أمجادهن وكتبن ملاحم خلودهنَّ بدمائهن لابدماء الغير كما يفعل الآخرون .
فكانت المرحلة مرحلة مواجهة مسلّحة وحاسمة مع النظام الفاشي ، - اشتدّت حملة الاعتقالات والاعدامات منذ عام 1979م بجنون وحقدٍ صارخ ، فشهدت المرأة العراقية المسلمة - بأُمِّ عينيها - ذبح أبنائها فى الزنازين وعلى‏ أعواد المشانق ، وتشرُّد اخوتها في المهاجر والقفار .
والاستشهاد كان مشروعاً حتميّاً لمعركتنا مع الباطل .. فالعراق «بحاجة لدمٍ كدم الحسين‏7» وكربلاء امتدّت لتكون كل العراق خيثُ عاشوراء الطف .. واشتدَّ - من خطاب للقائد الشهيد الإمام الصدر1 وهو قيد الحجز والإقامة الاجبارية عام 1979م .. وهنا أحرص على‏ القول ان أغلب شهدائنا - ومنهم شهيداتنا الخالدات - قد قُتِلوا على‏ أيدي النظام البعثي تحت عناوين ومُسمّيات سياسية إسلامية عريقة ، إلّا أن عنوان المعركة الحق كان - في الأغلب - النهضة الصدرية والثورة الخمينية التي عمّت البلاد والعباد حينذاك .
الظلام وعاش الناس تلك السنين حملة اعتقالات واعدامات مسعورة لم يشهد لها تاريخ العراق من قبل مثلاً قام بها أجلاف أمن النظام ومرتزقته ، وقد نجحوا .. وأيَّ نجاح .
وثائق وحقائق تناثرت في صدور الأخوات السجينات وفي ذاكرتهن التي زحف على‏ أكثرها التآكل والنسيان وتقادم العمر والتعرّب في المهاجر ، لم تجد من يجمعها قبل فوات الأوان .. فكان لابد من التصدّي لهذا الواجب والقيام بهذا المشروع باعتباره الفصل المُغيََّب الوحيد في ملحمة الجهاد المقدّس لتحرير إرادة الناس من استبداد بعث الارجاس ..
لذا لم تكن كتابة تلك المذكرات نزهة عابرة بل جاءت بجهودٍ حثيثة مضنية متواصلة انتُزِعَ الكثير منها بمشيئة الله وبطول صبرٍ وعناء انتزاع الصباح من مخالب الظلام !
ان هذه الملحمة الكتابية تدعونا أن نذكر جنود انجازها بالخير وان نثني على‏ راسمي فصولها بالامتنان ، ومن هنا فانه لابد من شكر نقدمه بين يدي هذا السفر المحلمي ، شكر أوله لله أولاً لتوفيقه وعونه على‏ انجاز هذه المذكرات ، وشكر آخر لزوجي ورفيق عمري الذي له الفضل في تفجير مكنون ذكرياتي المبعثرة التي كادت أن يأتي عليها الزمن حتى‏ الهبني بفورةٍ من الحماس حرّكت كل كياني لأتمكَّن من استعادة مانسي والإدلاء بما أجد واحفظ .
ولعلّ القارى‏ء الكريم يدرك جيداً أن وحشية طاغية العراق أكبر من أن يصوغها بيان مهما بالَغ ، لذا فأن ما عجزنا عن الإتيان به وتصويره أكثر مِمَّا ذكرنا ، لأن هناك ما نأى‏ القلم عن ذكره وابتعد عن علقم مرارته .
- نرجو من الأخوة الكتّاب والأُدباء العراقيين بذل الجهود لتطوير هذا المشروع ، فنحن لن ندّعي إيفاءهُ حقّه ، بل نحن لم نطمح من مذكراتنا هذه سوى‏ تسجيل مادة خام .
لذا ستبقى‏ هذه المذكرات وخزة ضمير لكل مَن ترك الوطن يُسبى‏ وهو في سُبات المَهاجِر يتسلّى‏ ، وتذكرةً لِمن هرب بعيداً عن مسؤوليته تجاه شعبه وعراقه وتناسى‏ الشرف المُنتَهك والخِدر المُستَلَب .
مذكرات كتبناها لتكون بين يدي أجيال الحق الذي سيُستَردَّ عاجلاً أم آجلاً .. وهي في الوقت نفسه دعوةٌ صادقةٌ وصريحة للعيش في اتون المحنة ليَتوحّد الصف على‏ الهدف السامي وهو انقاذ شعبنا من قبضة الجلّاد ، الا وان الفجر قريب ونحن على‏ موعدٍ مع النصر ، وإن الظلام سينجلي ولم يبق منهُ إلّا ثمالة ، وعهدنا بأن جراح الزينبيات قادر على‏ أن يُضمِّد جرحنا بعد أن فرّقتنا مطامع الذات وسياسة التكتلات حيناً من الدهر .
وسيصدح - بأذن الله - نشيد الله اكبر فوق روابي عراقنا ، وسنُكحِل نواظرنا بزيارة تلك القبور الطاهرات واللحود الدوارس ، وسنزرع فوق ثراكُنَّ الزنابق واعبق الورود .. وستطوف على‏ أضرحتكم زينبيّات جُدد أنجبتها تضحياتكم وشموخ جراحكم .
فيا نوارس الشطآن ، وياقناديل الزمان .. هنيئاً لكم عُقبى‏ الدار ، وسيعلم الذين ظلموا أيَّ مُنقلبٍ ينقلبون والعاقبةُ للمتّقين .
ولكل كلامٍ ختام ، بَيْدَ أن الحديث عن الشهادة والشهيدات لايجد في مطاوي حديثنا خاتمة ، مِمَّا يدعونا مضطرِّين أن نسكُت عن الكلام المُباح ، متوسلين الى‏ الله أن يتقبَّل هذه المذكرات خالصةً لوجههِ الكريم وأن يجعلنا مِمَّن أدّى‏ الأمانة - دخلت المعتقل عدّة مرات ، وأدركت ماذا يعني السجن والتعذيب ، وكم مرّةٍ انفردتُ مع نفسي في حوارٍ مع زنزانتي .. كنت أقول ؛ تُرى‏ هل سيأتي اليوم الذي أعيش فيه الحرية لأكتب شيئاً عن هذا العالَم ؟!
الحمد لله الذي وفّقني لتحقيق أُمنيتي ولم يترك ذكرياتي تُدفن في مقبرة الأماني العاقرات .. فما أشدَّ فخري واعتزازي وأنا أُشارك في هذه المذكرات التي تحكي قصصاً من حياة وجهاد واستشهاد حبيبات الروح شهيداتنا الغاليات ..
لقد انتظرت هذا اليوم سنيناً طوال ثِقال وبفارغ صبر الجبال ، لأُحرّر عن كاهلي مسؤوليةً عظيمة ، لان تكريم الشهيدات هو في الحقيقة تعظيم لقيمة الشهادة في حياتنا وأهمية دورها في معركتنا .
فلَم يخُنها (ومَن يكتمها فإنه آثمٌ قلبه) عسى‏ أن تكون لنا ذُخراً يوم لاينفعُ مالٌ‏ - سورة البقرة : 283 .
ولا بنون إلّا مَن أتى‏ الله بقلبٍ سليم .