النظرية السامية والواقعية الدامية

                                          

                                        خلدون جاويد

 

 مطريوس هو(السمو) وبروكست (الدنو) وهو جزار الاقدام وفق أطوال الأسِرّة . والأمر في مسيس الحاجة الى توطئة ضرورية فلنبدأ هكذا :

بين الجوهر والوجود بون شاسع من التضاد وحسب تعبير الدكتور كمال الحاج مقدم كتاب الوجودية مذهب انساني لجان بول سارتر فاننا نحلم بالجوهرية ( المثل العليا ) ، لكن حالنا على تلك الدرجة البائسة من ( الوجود- ية ) أي ان تصوراتنا بيضاء ناصعة بينما ظروفنا سوداء فاقعة .

 دعاوانا تنحو صوت الارتقاء من ادران المادة الى عالم الفتنة والبهاء الروحي المثالي . وجمالية الفعل الانساني في اذهان الكثير من المتنورين تعني حق الاختيار ، واسمى احواله ، بلا شك هو

 ( الاحساس بالغيرية ) . ولكن حتى التوحد الفردي من هذا الارتقاء ، أي تلك الجلسات الذاتية الافلاطونية يخلو فيها مع نفسه عند الرياضيات ،حتى تلك الخلوات فانها مبررة ما دامت تنأى الى معانقة الجوهر،، والسفر في عالم الذوبان الروحي وقد خلعت الاغلفة المادية - والجسد بطبيعة الحال جزء من هذه الاغلفة – فيغدو المرء شعاعا روحانيا . يقول افلاطون : " لا أعلم ... اني جزء من اجزاء العالم الاعلى الروحاني الكريم الشريف " ومرة اخرى عند هبوطه يشير : " أبقى متعجبا أني كيف انحدرت من ذلك العالم اوعجبت كيف رأيت نفسي ممتلئة نورا وهي مع البدن كهيئتها ، وعندما تذكرت قول مطريوس حيث أمرنا بالطلب والبحث عن جوهر النفس الشريف والارتقاء الى العالم العلي " .

  وحتى لايكون توحدنا فردانيا صوفيا احاديا انعزاليا افلاطونيا بحتا ، أو ديونيسيا كما هو الحال لدى آله الخمر واتباعه الذين يدورون حوله في احتفالات صاخبة صهباوية لذائذية حد النسيان . حتى نتقي البعدين المهمشين لحضورنا الواقعي ، فاننا ننتقي مقولة مطريوس ونتجه بها الى الحياة الانسانية بقصد اضفاء المُثل على التخبط ، وذلك لأن حياتنا غدت من المأساوية ما يقتضي ملامستها والبحث في دمائها واوحالها وانتشال الجثث المحترقة بنارها ، وبذا نؤدي الى عالم المثل العلي ارقى ما يهدف اليه " السمو ، الرفعة ، الوفاء ، المحبة " .  ان العارض هو طريق الآلام ، والجوهر هو هذا اللآمتناهي من الآمال وضرورتها الفكرية والروحانية اللآجسدية ( اعني به الجوهر غير المجسد أو الملموس مثل الوفاء ، الشرف ، الكرامة ، الاخلاص ... الخ ) فكيف بنا وطريقنا تتخبط في أوحال من التعقيد والتحدب والتعقر ، لاوضوح لطولها او قصرها ، ونحن بالتالي فاقدو بوصلتها رغم تلك الدراية المحنكة بها ! وتماما كما يقول المتنبي العظيم شعرا " نحن أدرى بدربنا وسألنا ... أقصيرٌ طريقنا أم يطولُ ؟ " وأيضا ، والذي يزيد الطين بلة امام الطبيعة الفجائعية للآلام الانسانية ، وازاء ظمئها المعرفي لماهية هذا العالم وغرائبية التواجد اللآانساني والضياع والصَغار أمام كوارث الطبيعة وظاهرة الموت والحرب ... الخ ، نرى ان بروقرسطس – بروكست ببعض الترجمات - يشيع الفوضى بكل من يدب على الأرض .

  ينقل الينا زكي نجيب محمود في ( المعقول واللآمعقول في تراثنا الفكري ) ان اسطورة قد وردت عن هذا الرجل فحواها : ان بروقرسطس أعد للمسافرين نزلا في بعض الطريق ، لكن حب النظام والتناسق أغراه بأن يضع الاسرّة كلها في نزله على طول واحد ، فاذا مرّ به نزيل أقصر قامة من طول السرير ، مطّه مطا حتى تتساوى قامته مع هذا الطول ، أو جاءه نزيل أطول قامة من طول السرير ، جذ ساقيه حتى يظفر بالتساوي الذي ينشده " .

 اننا مطالبون بانقاذ النزلاء والتخلص من ظاهرة مط الأرجل او قطعها . وفوق ذلك ايضا مناقشة امكانية التخلص من بروقرسطس ، كظاهرة لا كحالة ، ومعاينته كشرخ عميق في شخصيتنا ، الا وهو ان في كل ذات من ذواتنا وحشا ضاريا مثخنا بقوة ( أنا ) القائدة التي تريد لجنودها أن يأتمروا كما تهوى . وأب يريد لأبنائه أن يسيروا معه في كتلة واحدة وخطوة خطوة كما يسير هو . أو سياسي لايكف عن ملاحقة أصدقائه الاّ بتجييرهم الى حزبه على اسلوب الفوتوكوبي ، أو فنان يبغض الآخرين لأنهم ليسو من مدرسته ، أو شاعر عمودي يمنع ظهور القصيدة السيابية او النثرية ويتهمها بالأوربة أو الجوسسة ، أو سلطة تبالغ بالعروبية والكلاسيكية فتصدر قرار الابادة رقم ( 1 ) ضد حاج زاير والكرخي والأكمة الشاهقة في تاريخ القصيدة الشعبية : مظفر النواب وعشرات غيرهم . أو ، من جهة اخرى ، حومة ( ما ) تهين حقوق المرأة في العمل والتعليم والسفور وكافة حقوق التحرر التي لاتمس الجوهري في انسانية الانسان . أو تقاليد موروثة عفا عليها الزمن يجري القسر باتباعها أبد الآبدين ، أو مذهب لاخروج عليه او ارتداد او محاججة او تغيير مالم يعد صالحا منه ! أو ....وتكثر عشرات الأمثلة ، كلها تهدف الى جعل الأقدام حسب مقاس السرير ، تمطها او تقطعها طبقا للأديولوجيا ، والنظرة الحزبوية المتزمتة ، او الفلسفة ، او الكتاب المعين . ان تقطيع اقدامنا وسلخ الآذان وقطع الانوف والوشم ظواهر شكلية خارجية طارئة في تاريخنا . ان تاريخنا يشبه جوادا مخصيا ، واسلوبنا مثل اسنان مثخنة بالتسوس وذلك جراء المبالغة بالمكرور منه وتدويره حد الملل ، وثوبنا المهلهل مستهلك مهترئ لكثرة استعماله ، كل ذلك مرتبط بالرؤية الجاهلة والاستهتار المعبر عنه بذهنية بروقرسطس .

 ان بروقرسطس ( بروكست ) هو نحن ، ولابد من البحث بمصباح ديوجين عن الانسان فينا ، كيما نبعد عنا شبح الجمود العقائدي ، وايقاف ظاهرة قطع الاوصال الجسدية والفكرية حسب المقاسات .

 وأما القالب الذي نعتقده ضروريا لحياتنا فقد جربته شعوب عديدة وسقطت دعاواها واحزابها وترساناتها وجيوشها واعلامها وتماثيلها وخلفاؤها وفتوحاتها ومركزيتها ووحدتها القسرية واحتلالها للأرض والنفوس .

  لقد سقط بروقرسطوس في أمكنة عدة ، ولكنه يولد في كل مرة ، بالوعيد والتهديد وحب القتل والظمأ الى السفك ، والثورة الدامية والتغيير حسب منطوق السيف والدرع ، ان الفي عام من تلقين الشعر العربي البدوي النزعة ، لم يتزحزح قيد شعرة عن الاطار الدامي المعبر عنه بالمفاخر البطولية : " الليل والخيل والبيداء تعرفني ... والسيف والرمح والقرطاس والقلم " .

 ان عنترة وعمرو بن كلثوم لايمكن غسل تحجر دماغيهما العسكريتاريين برغبة سطحية لحب السلام ، رغبة لم تزل براعمها طرية وانصارها قليلين ، ومن المؤسف ان يشير نفر من ضحايا مصيرنا المأساوي المشترك وبعض من ضائعي المنافي ، وبعد أن عانينا من استمرار آثام الحصار وآثار الحرب وتبعات الانفلات الأمني ، أشار هذا العنترة الى ان الاوضاع لن تستقر في بلدنا المستباح الا بسفك دماء ثلاثة ملايين على الأقل ! يعني انه وحزبه عندما يأتيان الى الحكم فالنارُ نارٌ والحريقُ حريقُ .

  لاتكمن عظمة الانسان العراقي ودوره النضالي المبارك بتصفية الاوضاع الشاذة فحسب وانما ايضا باجتراحه مأثرة السلام الاجتماعي وخلق حالة جديدة بين مختلف الافكار بعيدا عن التنابز بالألقاب والجماعات ، واعتماد العمل الوطني والتسامح والوفاق . ان شعبا ذاق المرارات كشعبنا هو الاقدر على تجنب تناوب الادوار الديكتاتورية الدموية والتصفيات العنيفة انطلاقا من وجهة نظر ( الحزب ) وأوامره الجهنمية ، ان دم العراقيين ليس ماءً وان هشيم عظامهم ليس سماد براري .

   وحيث ان  بروقرسطس مايزال يثرثر عبر ايديولوجياه بكل كراهة وغثيان ، فنحن بمقتضى الحال أحوج مانكون الى  " البحث عن جوهر النفس الشريف " لدى افلاطون ومطريوس .

 اننا في مواجهة حالة من تجاوز الظروف الاستثنائية والدعوة الراسخة للالتفاف حول الطاولة المستديرة ، والبحث الدؤوب في قضية صنع قرار جماعي يرسخ السلام بين الاحزاب والقوميات والاديان ، ويصفي لا الظاهرة الدكتاتورية وحسب وانما جذورها واسباب ظهورها ، وبالتالي احراق سرير بروقرسطس والقائد أبد الآبدين ، لا على مسيل دجلة والفرات ، بل في القمامة .مع الأخذ بالحسبان ان فترة ماقبل وبعد حرق جثمان القائد ستكلف العراقيين كثيرا وعليهم ان يدفعوا ضريبة الانعتاق من عبودية  الدكتاتوريين والعمل بالعرق والدم والدموع من اجل نيل حريتهم التي هي كرامتهم  وسيادتهم التي هي شرفهم .

 ان تشجيع ظاهرة أنا ( الأفضل ) وأنت ( الأسوأ ) وانا على العرش وانت تحت الاقدام ، انا الانقى والأعف وانت الأجذم . هذا التنابز بين بعض الفصائل الوطنية – اينما وجد – هو اس البلاء ومكمن سياسة فرق تسد .

   الجميع الآن مدعوون الى تنسيق التمايز في لوحة من الألتئآم والتضامن . ان الحاجة الى ضمان التمايز السلمي بدستور ، هو هدف رفيع المستوى يتجشم ابناء وطننا مهمة تحقيقه .

  طوبى للعراقيين جميعا وهم يتجشمون عبء النضال تحت أقسى الظروف ومن اجل بناء العراق الجديد عراق الحرية والديموقراطية والتعدد . وحتى تجاري واقعيتنا الدامية ماتستوجبه نظريتنا السامية تقتضي الجهود خطى والشعاب مسيرة .