هاملت البراءة .... يمضي الى مثلث الموت

        خلدون جاويد


ليست الحياة داحس والغبراء ، تلك الحرب التي قضت نحبها مثلما غادرت المسرح آلاف الحروب ...وحسب ما أحصاه العالم السويسري جاك بابل ( قبل زهاء نصف قرن ) فان هناك " 14513 حربا عاشتها البشرية خلال 5559 عاما ، مات فيها 3640 مليون نسمة ، " ورغم ذلك تبقى الحياة سالمة ومعافاة وزاهية وجديرة بأن تعاش بالسلم . الاّ أن ثمة تلخيصات حكيمة تفيد بأن ْ لامفر من مماحكة فمواجهة فاقتتال . وعند أبي محسّد تكون اراقة الدم فدية لكرامة : " لايسلم الشرف الرفيع من الأذى .... حتى يراق على جوانبه الدم ُ " . أو أن شاعرا آخر يقول في ضرورة تقمص الذئبنة في مواجهة الكلبنة ! : " اذا لم تكن ذئبأ على الأرض أجردا .... كثير الأذى بالت عليك الثعالبُ " . فالدعوة للتدجج هي رديفة رد الأذى ، وهذا لايمنع حتى المجرمين من ادراك ذلك . يقول الملك كلوديوس في مسرحية هاملت : " وحيثما الاثم فلتقع فأس العقاب " .
أما هاملت ذاته ، في نظر بعض التحليلات فانه رجل تفكير وعمل . أي أن مشوار الهملتة بمعنى تثنية الامور بكثافة هائلة ، يستنزف أياما حتى يوصل احاسيسه بطرائق أفعاله . وقد استغرق ذلك واقع الحال أياما حتى استطاع أن يقضي على الفساد المستشري في وطنه .
وماذا يأمل الوطن من أبنائه سوى الدفاع عنه فداءا او الحنين والعودة اليه وبنائه . هذا هو قدر العاشقين ! . ان ضريبة العشق تدفع كل يوم بالعرق والأعصاب ، بالدم والدموع . والاّ فما جدوى فعلنا الانساني وكينونتنا ومذاق وجودنا ووجوديتنا . ان الأنانية في مفهوم بيرنارد شو على سبيل المثال وكما ورد في ( الميتو شالح )تنتهي الى برميل قمامة . واذا لم نفعّل البطولي فينا لن يبقى في ذواتنا الصغيرة والجبانة والعاجزة عن استرداد حقها بالوطن سوى مرارة الصغار والدونية . ان الفعل الهيليني شئ جوهري ، ونحن في انعزالنا ليس الا الهامش البليد المجانف لمعنى الحياة البطولي والسامي . يقول هاملت في مواضعات منها : " ما الانسان ان كان أفضل مالديه وخير مايشغله النوم والأكل ؟ حيوان لاغير . وكما يقول أيضا " ان الذي صنعنا وجعل فينا نفسا كبيرة كهذه ، ترسل البصر الى الأمام والى الوراء ، لم يهبنا هذه المقدرة ، هذا العقل الجدير بالآلهة ، ليدفن فينا مهملا " . ان توجيه هاملت الاتهام لذاته الانسانية ومساجلاته النفسية الداخلية هي حالة موجودة لدى كل غريب في اغترابه ( في الوطن أم المنفى ) . انه رغم كل أحوال التبصر هاهو يقول " ليت شعري أهو نسيان مني أم توجس رعديد اذ احسب للمغبة ألف حساب ، وهو حساب لو قسم ارباعا لما كان التبصر منه الاّ جزءا واحدا ، والجبن منه ثلاثة ارباع " .
لكن هاملت الفكر يمثل مساحة للحوار الداخلي وتأمل الذات ومعرفة مخاوفها وهواجسها وتحليلاتها واستنتاجاتها ، أما هاملت الفعل فهو القرار الذي يصله بعد تمحيص ! فاذا به ينحاز الى التغيير ويعطي المبرر لما يجري على ارض الواقع من حركة وصراع من أجل التأكيد على الحق حتى لو كان حقك قطعة ارض طولها وعرضها متر ليس الا ، أو صحراء مجدبة أو قشرة بيض . المهم انت باتجاه استرداد حقك وذلك هو أُس الذات الغيورة . هنا مشهد مهم رسمه شكسبير في مسرحية هاملت . انه حول تأملات الأخير أثناء عبور جيش على أرض الدانمارك من النرويج الى بولندة ، يتلخص فيه جوهر فلسفة الحرية ولا أدل على ذلك من مقولة لجان بول سارتر القائل " ان الحرية هي الموقف من الموت " . هنا ايضا يتجسد في المشهد اياه المعنى النافل للمقولة الخالدة " أن أكون أو لا أكون تلك هي المسألة " ... يقول هاملت : " خذ مثلا هذا الجيش اللجب ، يقوده أمير رقيق حديث السن ، له نفس كبرت بطموح علوي ، فراحت تسخر من العواقب المجهولة ، وتدفع بالجسد القلق العرضة للمنية ، الى تحدي الخطر والموت وقسمة الحظ ، ولو من أجل قشرة بيضة ! فالعظمة الحقة ليست في التحرك دونما سبب عظيم ، بل في اثارة النزاع العظيم حول هباءة اذا ماالشرف هدد بالأذى " . أي تماما كما لخصها المتنبي في " لايسلم " .
وهنا تظل ردود الفعل اضطرارا ، أي ان هاملت لايمضي الى مثلث الموت الاّ بدافع يدفعه . هاملت هو ليس ماكبث الذي كان وفق ماأرادت له زوجته في خطابها: " احمل الترحيب في عينيك ، في يدك في لسانك ، شبه الزهرة البريئة ، ولكن كن الأفعى التي تحتها " .. . ان الأول هو بطل هيليني معمول ذهنيا ، وهو عاشق وذكي وجميل واوفيليا أعذب زهور الكينونة ، هي انفاسه وجبينها الوضاء أريج روحه وهل يحلم بأكثر من ذلك ولقد قال شكسبير بحسنها " انها تتحدى الزمان من شاهق ٍ بكمالها " ! لكنه – هاملت - على اضطرار من ليلة دم عاصفة يحسم فيها الصباح الزاهي عن ظلام الفساد الدامس .
  ان التعبير اليسوعي ( وبالألم تلدين ) هو حالة النتاج البشري عبر مسيرة الألم الكونية فهو قدر لابد منه ، حسبنا في كل يوم تخفيفه وتقليل آثاره الى الدرجة التي تجعله سائغا في حدود الولادة : ولادة البرعم والرضيع والنهار الجديد والنتاج الجديد . اننا أمام حلم رومانسي أخضر عامر بالحنين الى السلام الاجتماعي ، تتكون فيه انسانية الانسان عبر ممارسات جديدة نوعية لاتمت بصلة الى جرائم كلوديوس او سواه ... ولكن مهلا مهلا مرة اخرى . كيف هو الأمر ازاء نفاية زاكمة في القصر ، ازاء مجرم متربع على العرش . هل هناك عاقل حكيم واحد على الأرض ، يؤمن بالتعايش مع مجرم اغتصب التاج عبر قتل اخيه بوضع السم في اذنيه أثناء نومه ، وبالزواج من امرأته ! أنّى لهاملت أن يرضى بالعيش في ظل اغتصاب سياسي وجنسي ؟ ... يقول هاملت في مساجلاته الباطنية : " فما موقفي اذن ؟ انا الذي قتل أبي ، ولوثت امي ، واستفز عقلي ودمي ، ولا احرك ساكنا ، في حين أرى ، واخجلتاه ، عشرين ألف رجل على وشك الردى يسعون من أجل شهرة موهومة الى قبورهم كأنها فراشهم ، ويقتتلون من أجل بقعة لاتتسع لقتال عديدهم ولافسحة فيها لضريح يوارى فيه صرعاهم . الاّ من هذه الساعة ، فلتكن دموية أفكاري كلها ، أو فلتعدم قدرها ! .
   ان التعويل هنا على دموية الأفكار في أن تكون الحل الحاسم للتخلص من المجرم والجريمة هو صراع مرحلي مبرر اخلاقيا ، على اعتبار ان استرداد الحق لايمكن أن يأتي الاّ عبر العقاب ولايمكن حسب فشل الأفكار الطوباوية وطروحات القس غابون ان تحصل على غير الأحد الدامي بالرغم من أن القس قد سار أمام المظاهرة السلمية والناس جميعا تحمل صور القيصر مع الورود الزاهية والكتب السماوية الاّ ان البنادق ولعلة الرصاص كانت الجواب على الورد والشمعدانات والتوسلات . أي ان لغة القيصر الرصاص مهما حاورناه بالمحبة والدموع والابتسامات . أي أن الافكار الطوباوية اللآواقعية ذل على ذل .وهذا ليس طريق هاملت .
ان دوافع هاملت ومسوغات عمله اللآحق مبررة بحكم الواقع .
والجريمة لاتبرر فلسفيا ، أما الرد عليها بالفعل والقوة والبطولة ، ولو كلف ذلك هدر الدماء ، فهو حق لامناص منه .
وبذا يدخل البرئ هاملت في حمام الدم وتتلوث يده به وبالسم . ويبقى هوراشيو شاهدا على مادار . لسان حاله وحالنا يقول ان كلا  طرفي الصراع الدامي هما ضحية حقبة تربوية تاريخية من عدم التوازن والبادئ أظلم .
مستقبلنا سوف لن يخلو من اصابع بريئة لن تتلوث بالنجيع ودفع ذات الضريبة . لكن ما سنعول عليه هو النشء الجديد الغضر اليانع من ازاهير امام متالع الشمس تحلم وعن أصالة بعيش في عالم من سلام دائم يقوم على أساس الحوار الجماعي لا الاغتصاب الفردي والفئوي .
أما اليوم فاننا مدفوعون بالضرورة الى فعل ( الدم بالدم ) وذهاب هاملت البرئ الى مثلث الموت لكنسه من اشباح الموت ، ونحن في غنى عن هذا لو يتوفر السلام وتزول اسباب الخصام . العراقيون عشاق السلام والحرية والفرح وهم يصلّون كل يوم من اجل نهار بلا دخان لكن الذي يدفعهم الى الدفاع عن زرقة السماء ونقاء الرافدين ونسيمه العذب العليل هوغيرتهم الوطنية وصمودهم في وجه تجار الموت وأيتام العهد المباد والمهربين والمختطفين والمفخخين والاوغاد والقوادين والمهربين ودعاة الاسلام والاسلام منهم برئ ودعاة العروبة التي تردت سمعتها بين الشعوب بسببهم . ان مثلث الموت والمربع والمخمس والمعين والمستطيل وكل اشكال هندسة الدمار زائلة لامحالة وحتي يأتي يوم الزوال التام لابد للعراقي ان يتشبث بالجمال الشعري الوطني القائل دفاعا عن كرامة وطنه وحبيبته :
" عن   الورود   ادافعْ ......... شوقا الى شفتيك ِ "
" وعن تراب الشوارعْ ......... خوفا على قدميك ِ "
  والختام أطيب مسكا :
" لايسلم الوطن الجميل من الأذى ..... حتى يراق على شوارعه الدم ُ "
... مع الاعتذار لأبي محسّد .
                           ****************