التفاوت قانون خالد ! لايمكن زحزحته بالنضال !

خلدون جاويد

  يقول أحد الفلاسفة في كتاب قديم أصفر وفي مقتبس ضروري للارتباط بذات العنوان أعلاه :
" ليس سبيل الانسان في اقتناء الأقوات سبيل سائر الحيوان الذي ينبعث في طلب الرعي والماء عند هياج الجوع وحدوث العطش وينصرف عنهما بعد الشبع والري غير معبئ بما افضله ولاحافظ لما احتازه ولا عالم بعود حاجته اليهما بل يحتاج الانسان الى مكان يخزن فيه ويقتنيه ويحرسه لوقت حاجته فكان هذا سبب الحاجة الى اتخاذ المساكن والمنازل . فلما اتخذ المنزل وأحرز القنية حافظا لها راصدا لطلابها اذن أفناها قبل أن يزيد فيها . فاذا اقتنى ثانية عادت حاجته الى حفظها فلايزال ذلك دأبه حتى يصير في مثل حيز البهيمة التي تسعى الى مرعاها مع حدوث حاجتها . فاحتاج عند ذلك الى استخلاف غيره على حفظ قنيته فلم يصلح لخلافته في ذلك الاّ من تسكن اليه نفسه الاّ الى الزوج التي جعلها الله تعالى ذكره للرجل سكنا وكان ذلك سبب اتخاذ الأهل . "
الاختلاف اذن بين ما يتناوله الحيوان ويسد به جوعه ويمضي لحاله بلا تخزين . والانسان الذي بدأ يخزن الطعام ويراكم اقتصاده ويجد من يحرس المنازل او الخزائن متمثلا ذلك بالزوجة والأولاد .
لا ننزه الحيوان من دمويته الغريزية ولايلام على ذلك . لكن مابال الانسان يرقى في الأزمنة ويزداد انانية وتخزينا ولو قرأ هذا الكاتب آخر أحوال البشاعة في عناقيد الغضب لجون شتاينبك حول جوع الفلاحين وحرمانهم حتى من حبة ولم صغيرة من العنب في آلاف الكيلو مترات من الحقول المحروسة حراسة مشددة لعلم ان الانسان قاس أكثر من وحش كاسر مفترس لأنه يمتلك الذكاء في ذلك . ولو كان قد أمده الله بعمر مديد وقرأ البؤساء وكيف يطارد الانسان من اجل رغيف ، ولو كان قد قرأ عن عمال المناجم في كتب اميل زولا وعذابات الناس مثل ( مهانون مذلون ، ونيلي ) وغيرها ، عند دستوييفسكي وآلاف من وثائق الأدب والفكر وحتى السياسة في رأس المال ، لما قرن شروحاته الآنفة بمعقولية ماهو آت ٍ من كلامه من فصل ( التفاوت بين الناس في الصفات والرتب ) : " فقد علم ذوو العقول أن الناس لو كانوا جميعا ملوكا لتفانوا عن آخرهم ولو كانوا كلهم سوقة لهلكوا عيانا بأسرهم كما انهم لو استووا في الغنى لما مهن أحد ٌ لأحد ولا رفد حميم حميما ولو استووا في الفقر لما توا ضرا وهلكوا بؤسا "
انه لمن المؤكد بأن هذا الكلام يصلح لمشاهدات الكاتب أيام زمان . أما لو قيض له وعاش معنا الى اليوم لرأى بأننا متفاوتون كما يرى في ذلك معقولا وحتى لانتفانى اذا تساوينا ! ولكنه لو يرى أيضا  ان هناك ، في تفاوتنا اليوم وعلى أرض الحقيقة والواقع ، الحرب والجوع والجريمة وانهيار الأخلاق في قطاعات هائلة من بني البشر ، فلا يجدر به أن يقول بأننا لو تساوينا سيحل الفناء بنا !
بمعنى آخرنقول : تثبت حالة عدم التساوي كل يوم سببا للتناحر . والرتب العالية الخازنة المراكمة للمال والحلال ، تقيم مجدها على المزيد من افقار الفقير . وهنا يكون الاختلاف أدعى للتناحر من امكانية ان نفنى لو كنا متساويين في المراتب والمنزلة .
  يضيف هذا الفيلسوف وهو ابن سينا قائلا " فلما كان التحاسد من اطباعهم والتباهي من سُوسِهم وفي أصل جوهرهم كان اختلاف أقدارهم . وتفاوت أحوالهم سبب بقائهم وعلة لقناعتهم . فذو المال الغفل من العقل العطل من الادب المدرك خطه من الدنيا بأهون سعي اذا تأمل حال العاقل المحروم واكدار الحُوّل ( شديد الاحتيال ) القلّب ( البصير بتقلب الامور ) ظن بل أيقن أن المال الذي وجده مغير من العقل الذي عدمه . وذو الأدب المعدم اذا تفقد حال المثري الجاهل لم يشك في انه فُضل عليه وقدم دونه وذو الصناعة التي تعود عليه بما يمسك رمقه لايغبط ذا السلطان العريض ولاذا الملك المديد وكل ذلك من دلائل الحكمة وشواهد لطف التدبير وامارات الرحمة والرأفة ." * .
ولو فصلنا النقاط أعلاه في المقوس الأخير لرأينا مايلي :
1- التفاوت علة لقناعتهم .
يثبت واقع الحال أن الملايين من بني البشر تحاول تجاوز حالتها وترقى الى منزلة اقتصادية أفضل .وان الدراسات الانسانية العلمية الطابع تحاول جهدها تحقيق العدالة والتقارب النسبي في الوضع الاقتصادي . ودول قليلة او كثيرة وفرت الضمان الاجتماعي في خطوة الى تحسين اوضاع مواطنيها .
2- ذوو المال الغفل من العقل .. الخ . من قال ان ذوي المال غفل من العقل ... كلا انهم يتبارون الآن في عالم الاكتشاف والعلم وتحقيق فتوحات في مجال الذكاء وهم ليس أهون في السعي بل في تنافس وانجاز في جميع المجالات .
3- ان الكاتب الفيلسوف قد استعرض فقط واقع الحال . وعدا ايمانيته التي نحن متفقون معه فيها قلبا وقالبا ، فكان الأجدر به أن ينوه الى قضايا مهمة : أهمها ان يدعو في الشرح والتفصيل أي في سياق كلامه الى ضرورة الآيات القرآنية الكريمة : "  ويل لكل همزة لمزة ، الذي جمع مالا وعدده . يحسب أن ماله أخلده . كلا لينبذن في الحطمة ... " ان هذه الآيات واضحة للغاية في ضرورة عدم تخزين المال وان العدالة الحقة هي اسعاد بني البشر ولو تحقق ذلك أي لو أعطى كل ذي خزين أقصى نسبة  مما ليس له به حاجة لما بقي فقير ولا حتى تفاوت . ان الخاصة الدونية هي حب المال بينما من أعظم الايمان هو العطاء ، ليس التصدق بل ايجاد نظام عادل مثبت في دستور اداري عملي تطبيقي يعكس الارادة الالهية والبشرية في ضرورة عدم جمع المال وتخزينه . وكذلك هي احاديث الرسل والانبياء الأكرمين . ولا أدل على ذلك من مقولات الامام على (ع ) في هذا الصدد : " مارأيت نعمة موفورة الاّ والى جانبها حق مضاع " و " ماجمع مال الاّ من شح أو حرام " و" لاتنال نعمة الاّ بفراق اخرى " بل يذهب الامام علي في حكمته الى ضرورة التوازن في أن يتمتع الفقير بأبسط حقوقه فان الصورة التي يقف ضدها الامام ، ومن معه من الحكماء والانسانيين ، انما هي بشاعة المجتمع القائم على وفرة للقلة وقلة للكثرة من الناس .
4- - ان الكاتب ابن سينا ، المبرر للتفاوت فاته ان يضيف ولو باشاره بسيطة الى ضرورة تقليل التفاوت او القضاء عليه او على الأقل الاقرار بحق الصراع ضد مسببي الجوع والفقر والحاجة . وهنا نشيرالى ان الامام علي قد خرج من معطف الفكر والنظرية الى الواقع الذي اقتضى اتخاذ الموقف حيث تتناسغ الثورة في شخصه واهل بيته حتى امتدت لتفتح تيارا ثقافيا واسعا . فلقد عول على معسكر الخير ونهض به من الكلمة الى الفعل وهو القائل : " لو تمثل لي الفقر رجلا لقتلته " .
5- وأخيرا نهدي الى الفيلسوف الكاتب ابن سينا الذي حاول تخليد التفاوت هذه الابيات من عصرنا الضاج بالاستغلال والمرارة والألم الذي يعاني منه الشغيلة على اختلاف مراتب عملهم ، وبين الخازنين للأموال وهي جدران من طابوق الذهب المخزون في الاقبية والبنوك وبيوت المال .
6- القصيدة للشاعر الخالد ايليا أبي ماضي :

اني لأعجب منا كيف تخدعنا
عن الحقائق
أمثال وأشباه
اذا بنى رجل قصرا
وزخرفه
سقنا اليه التهاني وامتدحناه
ومابنى قصره
الاّ ليحجب عن
أبصارنا في زواياه خطاياه
ونمدح المرء
من خز ملابسه
وذلك الخز لم تنسجه كفاه
وان اتانا أخو مال
يكاثرنا
بالتبر تيها رجوناه وخفناه
وقد يكون نضار
في خزائنه
دما سفكناه او جهدا بذلناه
لاتحسب المجد
ما عيناك أبصرتا
او ماملكت هو السلطان والجاه
المال مولاك
ماأمسكته طمعا
فانفقه في الخير تصبح أنت مولاه
مادام قلبك فيه رحمة لأخ ٍ
عان ٍ،
فأنت امرؤ في قلبك الله
         ..................

نعم الرحمة ومن ثم الفعل ... ان في ذلك تطبيقا للعدالة ليس فقط بالقلب واللسان بل باليد أيضا وذلك دعوة لردم حالة التفاوت تدريجيا او حسما وحسب الظروف الذاتية والموضوعية للأشخاص والجماعات والدول .
.......................................................
* انظر كتاب السياسة لابن سينا ص 3-5