هل يقوى العراق على ( فلسفة التعدد ) ؟ 

                               خلدون جاويد

 

  طُرحت فكرة التعدد في بانوراما تاريخية تخللتها محاضرة للبروفيسور الدانماركي ( بيير شولتس يوغنسن ) وذلك في مدينة هيلاغوذ في أيام العز حيث كان الحزب الاشتراكي الديموقراطي قبل صعود الحكومة الحالية . وتواجد بوقته ، في  قاعة المحاضرة عدد غفير من اساتذة اللغة الأُم من بلدان عدة يستمعون لما يحلله البروفيسور ويستنتجه . ولكم تمنى كل استاذ من المستمعين في دخيلته لو كان قد مر بلده بهذه التجربة الرائدة للتعدد ... وكان العراقيّون من اكثرالحاضرين اصغاءاً ولوعة ً ومرارة .

  أكد المحاضر على ان التعددية وتجسد ظاهراتها هي بمثابة عملية process نابعة من الواقع وحركته التاريخية . وان الديموقراطية حسب المنشأ التاريخي هي افراز لقوانين البناء التحتي ،انها انعكاس لتطورالقاعدة الاقتصادية وملموسياتها .انها قبل البناء مجرد شعار وبعده حقيقة !

 انها بهذه الصورة ( الدانماركية ) حقيقة لايمكن اعادة عجلتها الى الوراء بقرار سياسي او رغبة حاكم مثلما لايمكن افتعالها بين يوم وليلة . ان الممهدات التاريخية لواقع النموذج الاسكندنافي كامن في التحول العاصف الذي أودى بأحلام الثلاثينات من القرن الماضي ، اذ انهارت مُثلُها السائدة وروحها الجماعية التي كانت تتناسب طرديا مع الوتيرة الانتاجية الضعيفة نسبيا . لقد قفز العالم المتمدن الى رحاب الصناعة العالمية ، ورانت سمات جديدة على الواقع فهنا نجد مجتمع الصناعة الكبيرة ممثلا بانحسارالروابط الاجتماعية والروح الجماعية والذاكرة الايديولوجية الاولى . هنا نجد ثورة في الحياة الاجتماعية والمدنية ، هنا بدأت تترعرع الفردانية والفئوية وكل نزعات التفرد والتغاير . هنا انحسرت المظلة الكبيرة لتغدو لكل مجموعة او لكل فرد مظلته الخاصة به

( هذا الرأي للعالم ايريك اولبيك ينسن ) . لقد كانت المفردة الواحدة سمة لنا ، انها تلخص كل مواصفاتنا ! اما الآن فاللوحة الشاملة هي اطارنا العام وقد غدا لكل منا مفردته ! . وهذا ايجابي في ان تكون خصوصيتي مضمونة ومشروعة قانونيا في اطار اللوحة السلمية الاجتماعية الشاملة .

 يضيف البروفيسور : لقد فرز النموذج الاسكندنافي ولحد الآن امكانية نجاح مجتمع التعايش السلمي او الوفاق الطبقي ، ولعل حجر الاساس يعود الى هيبة المنظومة الفكرية للحزب الاشتراكي الديموقراطي وعلى رأسه رئيس الوزراء الراحل توفالد ستاوننغ الذي عقد الوفاق ( باللغة الدانيماركية forlig ) في اخطر فترة من حياة الدانمارك ، لقد أرسى ستاوننغ حجر التعايش السلمي للأحزاب والتئام الشخصية الوطنية عمالا ورأسماليين .

 من المفيد أن يضاف الى هامش المحاضرة اياها ، أن الأزمة الاقتصادية في الثلاثينات من القرن الماضي ، قد سادت اوروبا وذلك بعد افلاس البورصة في الولايات المتحدة الاميركية وفي الايام 21-29 اكتوبر عام 1929 قدرت الخسائر بملايين الدولارات وكثرت البطالة اثر ذلك وتصاعد الصراع الطبقي ( 30 مليون عاطل عن العمل في العالم سنة 1932 ) . وفي غمرة من التخلخل العاصف ، تقف الدانمارك على قدميها وتشرع قوانين للضمان الاجتماعي وحماية البيئة والمجتمع ، العمل ، المتقاعدين والعجزة . وكما صعدت الديموقراطية في الدول الاسكندنافية ، التهب الصراع الطبقي في بقية الدول ، وظل الصراع دائرا بين احزاب اليمين واليسار ، ولم يعالج  بطريقة الوفاق في الدول مثل المانيا واسبانيا والبرتغال . وبذا فقد ظهرت النازية والفاشية . وأيضا بدأت الحرب الأهلية في اسبانيا .

  نجحت هنا – في الدانمارك – خطة  (دولة الرفاهية ) باعتمادها التعددية في الحياة الاقتصادية التي آلت الى ثمار الديموقراطية وتعدد الاحزاب. ومن البداهة أن يقال هنا ان لشخصية الرأسمال سطوة ، ولذا فله الحق بتشكيل حزبه وشرح فلسفته ونشر جريدته ، ولما كانت الشخصيات مختلفة ومتعددة ، ففردوس الحياة السياسة والاجتماعية يعج بتلاوين هائلة من الاختلاف السلمي .

 تعتمد ( دولة الرفاهية )  على النظام الكوموني ، والضرائبي وضمان حياة كل فرد منذ ولادته فهو على سبيل المثال قد ولد اليوم 14نيسان 2005 فسيكون هذا الرقم هو رقم سجله في الضمان الاجتماعي في الراتب والصحة مضافا له اربعة ارقام تميزه عن ولادات اخرى في نفس التاريخ فيحصل في بطاقة الهوية على الرقم الآتي على سبيل المثل 1404057862وهو لايشبه أي رقم آخر وهو المفتاح الى دخول راتبه من الدائرة المحلية ( الكومونة ) الى البنك مباشرة ، فالمرء اذن وفق هذا الاعتبار متحرر من أية سطوة اقتصادية وهذا يشمل كل أفراد العائلة فلايكون هناك أي احتياج من قبل انسان لانسان آخر . واذا ماتعرض المرء الى العطالة – والناس هنا تقدس العمل – فان شروط مرتبه المالي مستمرة الى حين ايجاد فرصة عمل له او ادخاله في دورات تدريبية ولغوية ... ان الدانمارك بلد الشهادات الدراسية . لاتوجد هنا صدقة من غني على فقير فالناس تجاوزت هذه السذاجة مادام كل امرئ له راتبه الجاري مع الفرصة المفتوحة له بأن يعمل أكثر من عمل واحد فيزيد مرتبه بعد ان يؤخذ قرابة ثلث الراتب ضريبة تخرج من راتب المواطن لتعود اليه ولأطفاله عبر كل مرافق الحياة ، مجانية التعليم والعلاج وحق انشاء الجمعيات الادبية والاجتماعية . الصحة العامة وجمالية المدينة التي هي اشبه ماتكون بصور الانجيل عن الجنة . الدانمارك جميلة وخضراء ونظيفة للغاية وبحاجة فقط الى ملائكة تنساب فوقها وتهمس بأغاني الحب ! فهنا الصمت والهدوء أجمل الألحان ! .

 هنا لاتوجد صورة لملك او امير او رئيس لقد تجاوز الناس هكذا خزعبلات وهوسات العصر الحجري والاهازيج السمجة الممجدة بأسماء رؤساء وابناء رؤساء .. هذا الشئ في هذه البلدان مسخرة ! وتخلف . لاشعار سياسي على حائط  ولاشتائم ،ولماذا الحائط اذا كانت الصحف تتناول كل شئ بالتحليل الجاد والنقد البناء واحترام رأي الآخر ؟! . هنا لاتوجد عهود ووعود من رئيس واحد وحيد ، وهنا لايتبدل القانون الا بعد دراسة تمر عليها اشهر او سنوات شريطة ان يصدر من طبيعة الحياة أي من البرلمان . هنا ( فلسفة التعدد ) تبرمج الفرح للناس بالحقيقة والواقع الملموس لا بالأدعية والتمنيات ! الهندسة تخطط الواقع وليس الشعوذة ، والرياضيات تلونه بالتخطيط الدقيق حسب المواعيد المسجلة الكترونيا والتي تعمل اوتوماتيكيا بعد ان  جرى الاتفاق على دقتها ومواعيدها ومعطياتها . ان عصرنا الحزبوي البائد قد درج فقط على ادخال آخر مبتكرات العلم في دوائر الأمن والمخابرات .

هنا الكومبيوتر مبذول في كل بيت ومؤسسة . أكثر الناس خبرة هؤلاء ( الحلوين الملاعين ) الأطفال فهم اختصاصيون اكثر من آبائهم . في الصفوف وعلى طاولات الدرس يوجد جهاز لكل تلميذ . في البيت اكثر من كومبيوتر احيانا .

   نعم كان البروفيسور يتحدث عن الدانمارك والمحاضرة عن العلم في تطبيقاته الموضوعية . بينما العصر الحجري العربي آلا على نفسه الأّ أن يأكل أبناءه مثل هرة دامية . فكم من عالم وفيلسوف ومثقف واستاذ جامعي قد جرت تصفيته من قبل حكام اميين لايحتاجون الكومبيوتر ابدا لأنه يفضحهم . خنجر وسكين ومسدس ورشاش كاف ٍ لتهدأة الوضع مع بعض الادوات الكهربائية للتعذيب وبعض قناني للتقعيد عليها من قبيل بيبسي كولا او شابي او تراوبي لايهم ! و ( شبيه الشئ منجذبٌ اليه ) !!

   عراقنا الجديد مطالب بالاستفادة من تجارب أية دولة كانت ، تحترم شعبها في ارساء نظام اقتصادي يوفر للمواطن حياة كريمة جديرة بالعراقيين بل يجب ان يصار الى اسعاد العراقي بضعف ما يستحقه الانسان من سعادة وذلك لأنه قد لاقى الأمرين  وعانى من حكامه السابقين مالم يعانيه شعب  آخر في منطقتنا على الأقل . شعبنا مظلوم ومحروم ومقموع ، وعلينا التحرك برجال صدق ونزاهة من اجل ترقيته والاعتناء به وبطاقاته الجبارة وروحيته العراقية الطيبة في عمقها واصالتها ونبلها . الشعب العراقي ليس ارضا محروقة ، ان اديمه مايزال معطاءا ومنجبا وولودا برغم ماران عليه من رماد الاستبداد وسعير الرياح الدكتاتورية . ان في بلد الرافدين هواءا عطيرا لابد ان يهب يوما على ابنائه بالسلام المنشود وبالعيش الكريم . ان في بلدنا اساتذة اقتصاديين جديرين بتقديم انجع الدراسات لتحقيق رفاهية ملموسة بيد كل عراقي . فثروة البلد المسروق قادرة على ان تجعل من كل عراقي يسير بحذاء من ذهب . واللعنة على خزائن الذهب . وسحقا لمن ظلم شعبه و " ويلٌ لمن جمع مالا ً وعدده ... " .