ارهابيْ !  يستفيد من أبي القاسم الشابيْ  ....

 خلدون جاويد

 

يؤكد التيار الالحادي من الفلسفة الوجودية على ان لاقيامة للانسان بعد موته وهذا ينافي الفكر السماوي . ولدى الفلسفة على يد الشاعر أبي العلاء اعتبار مفاده ( ضجعة الموت رقدة )وهو عنوان لقصيدته المعروفة بمستهلها الشهير : " غير مجد ٍ في ملتي واعتقادي .... نوح باك ٍ ولا ترنم شادي " والتي يقول فيها : ( واللبيب اللبيب من ليس يغتر بدنيا مصيرها للفساد "ان الدنيا آيلة الى الموت . وهنا يتقاطع المعري مع الفكر الوجودي لكن مانود التركيز عليه هنا هو الأكثر مرارة من تشاؤمية أبي العلاء المعروف بقوله : " هذا جناه أبي عليّ وما جنيت ُ على أحد "والذي تعداه بقول اباحي عدمي هو :

 

" وليت وليدا مات ساعة وضعه

 ولم يرتضع من امه النفساء

يقول لها من قبل نطق لسانه

تفيدين بي أن تنكبي وتسائي "

 

وبرغم كون الحياة وفق الرؤية أعلاه قد اجهضت فور تألقها ، وذلك جراء مايكتنفها من آلام وشرور ، الا ّ ان النموذج المعاصر المتمثل بأبي القاسم الشابي يضيف على الرؤية القاتمة مسوّغات موت ! أدعى الى التلذذ والتشوّق والاحتفاء ببديل جميل بل أجمل من الحياة ذاتها وذلك بأخذنا الى مملكة الموت السحرية وبصيغة شاعرية قل نظيرها . فلكم هي مؤلمة بل هي مفجعة تلك الحياة التي سبر أغوارها الشابي لكي يخلص في تأملاته التراجيدية الى اعتبار الموت صدرا للحنان . انه قلب الدهر الرحيم ، وصوت الحياة الرخيم . لقد غدا الموت حياة ً ، وفردوسا جميلا خالدا ساحرا الى الحد الذي يدعونا فيه الشاعر دعوة سافرة الى الذهاب اليه . انه روح جميل ومنبع ومهد . كما ان الحياة تجد خلاصها بالموت حيث تنضو فيه رداء الأسى وبالتالي فسوف نمضي الى عالم الجنان الزاهي ، لنرتع هناك تحت الظلال الحنون وحيث عذارى وحوريات السماء ... ان الشاعر ينجو بدراماتيكية الحياة الى سعادة الموت مادام الموت جنة ، والموت بالتالي وكما تشير خاتمة المقاطع فهو الذي يجمع القلوب الجريحة ويضمها الى صدره بل انه سيعيد فيها ربيع الحياة ... ان الشابي هنا ، ومن بين القلائل من شعراء العربية ، يتناول الموت في أندر حالات التصور المضاد للحياة الحقيقية على الأرض ، اذ يرسم لنا حياة هي اكثر انسانية ورقة وحنانا وامومة وحيث الشراب الطهور . ان المسألة المثيرة هنا بكليتها من حيث وجهة نظر عشاق الحياة لتصبغ كتاب الحياة الزاهي الصفحات بالأسود وهو يتغزل بأن الأسود أبيض بل فضي والمائت جميل وحيوي والمعتم مضاء بأجمل مصابيح الحياة الاخروية . ان اللوحة من حيث لعبتها الفنية والأدبية باهية وجميلة ومن حيث رؤآها الفلسفية تتسق مع القائل : " ماهذه الدنيا بدار قرار ِ " فالموت هو الخلاص . ان المآل الزاهي لبائعة الكبريت التي يصفها الكاتب الدانماركي هينس كريستيان اندرسون ليلخص المسألة عبر الحلم الثالث حيث ينعتق البؤس باتجاه الجدة الحنون التي تأخذ بيد الطفلة المرتعشة من شدة البرد في ليلة رأس السنة الى صدرها حيث الحنان والدفء في فردوس السعادة . ولكن عدا رؤية الشابي القاتمة والهاربة من حياة البؤس والمتشبثة بالموت فان الحياة ادعى لممارستها بالحب والفرح والعناق والنضال من أجل وجودها وسعادة ابنائها وعذوبة شمسها وازهارها . وهذا مايعبر عنه هو ذاته في " ارادة الحياة " قصيدته الشهيرة . أما الآن ، وما دام البحث يدور عن مفهوم الفناء في الشاعر ، فدعنا نتناول احدى أهم قصائد أبي القاسم الشابي بهذا الصدد :

 

الى الموت ! يابن الحياة التعيس

ففي الموت صوت الحياة الرخيم

الى الموت ! ان عذبتك الدهور

ففي الموت قلب الدهور الرحيم

الى الموت ! فالموت روح جميل

يرفرف من فوق تلك الغيوم

فروحا بفجر الخلود البهيج

وما حوله من بنات النجوم

 

 انه شعر الترغيب بالجمال المتخيل ، ولكنه من جهة اخرى مغر ، فهل يدفع المرء بذاته الى هذه العوالم مادام هنالك فجر عذب وهناك خلود لافناء بعده ومصابيح النجوم بل بنات النجوم – لقد زاد من تأنيث النجمة فجعل منها بنتا – وجعلها تتألق بالرومانس وتتدلى من سقف العالم . الشعر هنا متفتح ومزدهر لكن الفلسفة تسري في عرقه بموقف ما او النظر من زاوية ما ! فهل المرء هنا تشاؤمي فنائي النزعة ؟ أم هو مع العمل على تجسيد كل هذه الرؤى الشاعرية في الحياة .

الحياة ارضنا الملموسة والواقعية والأقرب الى أصابع اليد ! فلمن ذهب الشابي الى الموت ليرسم لوحة زاهية ؟ سيما ان لا أحد ذهب الى الموت وعاد. دوافع كتابة الشابي هي قسوة الحياة . ولربما كانت القصيدة بذاتها تورية يريد بها الشاعر همز قناة السلطة التي يجب ان تعلم بأن الموت أفضل من هذه الحياة – الظمأ التي تروى بالدموع ليس الاّ :

 

الى الموت : فالموت جام روى

لمن أظمأته سموم الفلاة

ولست براو ٍ – اذا ما ظمأت –

من المنبع العذب قبل الممات

فما الدمع الاّ شراب الدهور

وما الحزن الاّ غذاء الحياة

الى الموت ! فالموت مهد وثير

تنام بأحضانه الكائنات

 

وهنا لم يجرب الشاعر ( أعني النص اياه ) ان يكون الفرح والعمل من أجله ، هو المسيرة الكفاحية المكللة بغار حياة يغمرها الشوق ، فكأنه احجم عن رؤية او تخلى عما قال :

 

 " ومن لم يعانقه شوق الحياة

تبخر في جوها واندثر  "

 

ولكن لم هذا الترهيب اذا كان الحزن غذاء الحياة وان الموت مهد وفير ! ان المعاينة هذه او المساجلة لاتقلل من اهمية النصين الرائعين لكنها فقط تتدخل في رصد كيفيتي النظر الفلسفي في بحثهما الدؤوب عن الحقيقة ومكامنها السعيدة في الموت ام في الحياة . يقول الشابي :

 

الى الموت ! ان حاصرتك الخطوب

وسدّت عليك سبيل السلام

ففي عالم الموت تنضو الحياة

رداء الأسى ، وقناع الظلام

وتبدو ، كما خلقت غضة

يفيض على وجهها الابتسام

نعيد عليها ظلال الخلود

وتهفو عليها قلوب الأنام

 

ولايبدو الأمر في حالة محاصرة الخطوب لنا أننا نختار الصراع بديلا أي مثلما أشار السياب في قصيدته " النهر والموت " الذي يقول فيها ان موتي انتصار . لا ... ان الأمر يبدو للمدقق حالة فلسفية كاملة متورطة باعتبار عتمة القبر بديلا لضوء الحياة . ولرب مفكر تشاؤمي قاتم الرؤى ينبري ليدافع عن الشابي قائلا : ومن قال ان ضياء الحياة أبهى من سواه ! . نعم لقد ذهب أكثر من فيلسوف بهذا الاتجاه وأقرب الرؤى هو ماتحت ايدينا ، وأعني قصيدة الشابي ذاتها الذي استمر بالقول :

 

الى الموت ! لاتخش اعماقه

ففيها ضياء السماء الوديع

وفيها تميس عذارى السماء

عواري َ ، ينشدن لحنا بديع

وفي راحهن غصون النخيل

يحركها في فضاء يضوع

تضئ به بسمات القلوب

وتخبو به حسرات الدموع

 

ومرة اخرى يضمنا الموت كما يلتقينا أب حنون ليبعث فينا ربيع الحياة ... وأيهما ياترى ؟ العودة الى الحياة على سبيل التناسخ ؟ ام العودة الى الحياة في جنان الاله الخالق ؟ على سبيل ماورد في الآية الكريمة " والموتى يبعثهم الله اليه ثم اليه يرجعون " . أم أي موت متخيل هذا الذي رآه الشابي وعاد ليخبرنا بمباهجه وربيعه ؟ وهذا مايوحيه قوله :

 

هو الموت طيف الخلود الجميل ،

 ونصف الحياة الذي لاينوح

هنالك ... خلف الفضاء البعيد ،

 يعيش المنون القوي الصبوح

يضم القلوب الى صدره

ليأسوَ ما ضمها من جروح

ويبعث فيها ربيع الحياة

ويبهجها بالصباح الفروح

  

أما الشاعر أحمد شوقي فهو ، في مسرحية قيس وليلى ، ليبرر الجانب المأساوي من الحياة باعتباره قيمة رفيعة المستوى ، ويرقى بها الى النبوغ :

 

" حنانيك قيس ُ أقل العتاب

ولاتسكبن دموع الندم

تفردت بالألم العبقري

وأنبغ مافي الحياة الألم

 

وهنا ينطق الشاعر أحمد شوقي في مقولته " وانبغ مافي الحياة الألم " من تصور الحالة الاستثنائية للمأساة التي كابدها عاشق مختل ، شاعر متأجج ، ينثال بأحر تجربة شعرية ، فكأنما وراء كل قصيدة حارقة ألم نبوغي ، وهو بمثابة الذروة التي عبر عنها أحمد شوقي بتعبير " وانبغ مافي الحياة ..... " والسؤآل المتاخم هو : هل من ضفة اخرى مغايرة لهذا القول التراجيدي الذي لو عمم فلسفيا لران على المزاج الانساني الغبار السام للكوارث ! وأدى بنا الى الموت ! وهذا ماحل بالشاعر المجنون حقا وفعلا وهو يخط آخر بيت شعري في حياته وقد وجدوه جثة ملقية في عرض الصحراء :

" توسّد أحجار المهامة والقفر ِ

ومات جريح القلب مندمل الصدر ِ "

 

وماذا لو نقول : " وأنبغ مافي الحياة الفرح " والفرح حالة مستعصية على الخيال الانساني المعاصر لأن موسم بذاره لم يحن بعد . نعم يمكننا أن نقول وان من الألم لنبوغا ولكن ليس هو الأنبغ . الأنبغ هو القدرة الانسانية على اجتراح مأثرة الفرح في الفتوحات الفلسفية والعلمية والارتقاء بروحانية الحياة وعقلنة مادياتها ! هذا هو الأنبغ . ان الخطأ الفلسفي الذي يقع فيه أحمد شوقي نابع من طبيعة الوعي المتخلف للسائد من ذائقة القرن العشرين .

 ان مواجهة الموت ببهجة ووفرة الحياة وكذلك الألم بالفرح والعمل من أجله يعطي لانسانيتنا دفق التصور بجمال اليوم والغد فبدلا من وأد الأجيال والتمني للوليد ان يموت كما أراد المعري ، والموت كما تغنى به الشابي ، والألم العبقري النبوغي كما ذهب الى ذلك أحمد شوقي ، بدل هذه اللوحة الكارثية ، لا بد من عطف على ابتسامة خيط الفجر اللآثغ بندى الاشراق او صباحات الطفولة . لابد من طريق نعبده من أجل قدمين صغيرين . لابد من عش لكل الكائنات ، واغنية ونافذة ورد ، وفرح . 

 ان قصيدة الشابي ترهب القارئ بنصوصها وتحطمه بتطبيقاتها وهي لو كرست لتدمير ذائقة الوجود وجمعت مع مثيلاتها في تحبيذ التخلص من الحياة لأصبحت ذت تأثير قاتل لايحتاج معه أي ارهابي ان يحمل غدارته معه بل يكفي للأدب احيانا ان يهشم اللوحة الزاهية للحياة ! ومن الأدب التشاؤمي ماقتل ! اذ بسبب كتاب آلام فرتر للشاعر العظيم غوته ، قد جرى انتحار كثير من الشبيبة بعد قراءة الكتاب ( انظر مقدمته ) ! وان هناك اشخاصا يعيشون معنا يتساهلون مع حياتهم بسبب حالة من القناعة الضعيفة والتواء في الجملة العصبية ! ...

  في كتاب الدادائية للأديب العراقي المرموق علي الشوك يدعو اديب ما جمهورا للتفرج على قصيدة له مرئية هي لوحة الموت ، فيقف أمامهم باتجاه فيورد للبحر تكثر فيه اسماك القرش ويبدأ يمارس قصيدته اذ يأخذ قاربه الصغير و ( يتوكل ) ! وهناك تتناوله القروش بالحنان المسنن ! وتأتي الأمواج بعد ذلك بدمائه الى الساحل  . قناعة !

 لم لا ؟ قناعة أيضا ان يوزع أحد الارهابيين قصيدة الشابي الارهابية هذه الى ابناء الشعب العراقي ليقنعهم بحب الموت وبذا يقررون  بعد قراءتها  بالانتحار الجماعي . لايكفي  بعض الاخوة الاعداء من الضيوف مفخخات بل يعملون على تفخيخ القصائد التشاؤمية وقتل الناس . الحياة سوداء ولون الموت أبيض فضي زاه ... هيا الى الموت ياعراقيين ! . الطعام على مائدة الموت ينتظركم مع الرسل والانبياء ، وأما الحياة فطيف عابر تفضلوا وطاردوه بالخنق والحرق .

 وهذا يذكرني بحادثة لها صلة قد حدثت في الاربعينات أيام الحرية النسبية للحكم الملكي اذ صعد على كتف المظاهرة شخص بادي الحماسة يصرخ لصالح توفيرالحاجات المطلبية للشعب ومن اجل التحرر من الاستعمار وهو ينادي بصوته الجهوري كأنه مع احتراماتنا صوت ( فهد بلان )  يابنات المُكلا !. انه ينادي : موتوا في سبيل الوطن موتوا .... يا ناس موتوا في سبيل الوطن موتوا .

 اتضح بعد ذلك ، بأن الشخص اياه يعمل ( حفار قبور ) وهو صاحب عائلة فقيرة ! ومحتاج !

 لقد انفضح امر حفار القبور وتناوله الشعب العراقي بالسخرية ... وهكذا يفعل وسيفعل بهم  شعبنا ! بل ان شعبنا عاشق الحياة وصاحب أجمل نهرين في الدنيا وأعذب شاعر هو السياب الذي مهما تشاءَم في الحياة جراء سوء المعاملة بحقه وأمراضه فأنه القائل :" حتى الظلام هناك أجمل في بلادي فهو يحتضن العراق " . ان طعم العراق رديف اللوز والماء والعسل ... والشعر والورد والقبل ... والطفولة والشمس والنخل ... والحنان وعطر يد الأُم ورائحة عباءتها ...

 ان من لديه دجلة والفرات يحيا مرارا ! ، واذا مات فانه من شدة الحسن في الوطن يعود الى الدنيا من حيث يدري او لايدري لينبجس في خيط نور بصراوي وشقائق نجفية ونار كردستانية وضفيرة آشورية وجفون عربية بل روح عراقية جامعة مانعة ! أصيلة معمدة بالدم لكنها تحمل فوق جناحيها الشمس وعلى عنقها قلادة القمر.

 وطوبى للشاعر القائل :

" نعم قد نموت ولكننا ..... سنقتلع الموت من أرضنا " .

 

                ----------------------------