مسارات التطور في المجتمع والنموذج العائلي في الدانمارك

بقلم كاي اولبيك سيمونسن

ترجمة خلدون جاويد – وفارس العبدلي

يمكن أن تكون تجربة الأغلبية القادمة الى الدانمارك من ذوي الثقافة العربية الطابع ، تجربة عنيفة وذلك عند نشوء معرفة مع النموذج الدانماركي العادي . ان المعاشرة المشتركة الحرة( بين الرجل والمرأة ) لتشكل وبالضرورة مفاجأة للانسان القادم من بلدان تتسم بقواعد متعارف عليها مابين الأهل والأطفال ومابين الجنسين ، وحيث يكون الأب تقليديا ، هو المقرر لشؤون العائلة بلا أدنى اعتراض .
هكذا كانت الحياة في الدانمارك ومنذ فترة طويلة ، لكن حدث هناك تطور مديد ، نتيجته ما اتسم به حالنا اليوم . وكان هذا التطور طبيعيا ولايمكن تجنبه وانه يحدث متزامنا في المجتمع كوحدة واحدة .
كان للشعب قبل 300 عاما طبقات تختلف عما هي عليه اليوم . كان الملك يتبوأ المكانة العليا ، ويليه النبلاء الذين انبثقت عنهم ، في ذلك الوقت ، الطبقة الرسمية .
يمتلك النبلاء العقار والمزارع الكبيرة في البلد ، مع المزارع الفلاحية التابعة وحيث يعمل فيها الفلاحون ( المحاصصون ) وكان لزاما على هؤلاء ان يعملوا في حقول المزارع قبل ان يحرثوا ارضهم بالذات .
وفضلا عن ذلك فقد كان هناك قساوسة لهم واجبات اساسية اخرى ، عدا مواعظهم الانجيلية ، ألا وهي تعليم الفلاحين وابنائهم في ان مكانهم هو الأدنى في المجتمع . وكان للقساوسة اسقف ومركز كنسي اعلى منهم .
كانت المدن والبلدات هي الأماكن الوحيدة التي يجري فيها البيع
والشراء ،وكان يعيش هناك الموظفون مع عائلاتهم وكتَبَتهم وخدمهم ، وكان هناك اماكن كبيرة للتسوق واسطبلات لخيول الزبائن . كانوا يقدمون الى داخل المدن من اجل الاتجار وقضاء يومهم . كان للتاجر الغني من الناس ممن يعيشون في كنفه ، وهم جزء من عائلته . وفي المدن ايضا ، كان لمعلمي الحرف ايضا ، ورشاتهم ، وللحصول على رخصة يتم بموجبها ، تشغيل ورشة في المدينة ، فانه يجب اقرار ذلك من قبل التنظيم ( لاوغت ) الذي هو مجموعة من الشغيلة في صنف واحد من العمل ، ويقف على رأس هذا التنظيم رجل مختار ومنتخب . وكان للمرشد الحرفي أيضا صناع ومتعلمون يعيشون وكأنهم جزء من العائلة .
عاش الصيادون على السواحل طبعا ، والملاحون على المدن الساحلية . وأما كريستيان الرابع ، الملك الذي حكم في النصف الأول من القرن السادس عشر ، فقد بنى(nyboder  ) نيبودر للطاقم البحري ، والذي لايزال موجودا لحد الآن في كوبنهاغن .
وينسحب ذلك على كل التنظيمات المذكورة ، والعرف السائد هو انك تولد فيها ، وفيها عليك ان تبقى ويرتبط اطفالك بها ، وفقط في حالة نادرة كالموهبة او الحظ ، يستطيع المرء ان يحصل على منزلة عائلية أعلى من تلك التي ولد فيها ، بينما يسهل ذلك في الحالة المعاكسة .
وفي كل هذه التنظيمات كان هناك حق معاقبة من هو ادنى في المجتمع . يستطيع الأسياد أن يعاقبوا فلاحيهم وخدمهم ، والفلاح زوجته وأطفاله ، والتاجر موظفيه وعائلته ، وصاحب الورشة صناعه ، والصناع للمتعلمين وهلم جرا ....
كانت العقوبة تتضمن في كل الاحوال تقريبا ، الجلد الوحشي . وكانت الطاعة العمياء مطلوبة في كل الاحوال ممن هو دونك وبضمنهم الزوجة والاطفال .
ومن ثم أقبلت القهوة الى الدانمارك !وقبلا كان الرجال يتحلقون حول جلسات الكحول لمناقشة المشاكل الجادة . والآن نشأت المقاهي والنوادي في المدن ، وأصبح الكلام واعيا وجادا ، وبعد ذلك خطيرا على المتسلطين الظالمين ، ولذا غالبا ماينتشر الجواسيس فيما بينهم ويلقى القبض على المنتقدين من رواد المقهى . الا ان الكلام لم يتوقف واصبح جزءا من اساس التطور الذي قاد الى حالة الحرية ، والى دستور المملكة الدانماركية عام 1849 .
لقد حصل الرجال الآن على حريتهم ولم يتعرضوا الى العقاب ، ولكن هل هذه كل الحقيقة ؟ كلا لأنه كان لأغلبية المواطنين الراقين فقط ، وكذلك للموظفين والمثقفين والنبلاء احساس بالرضا .
لقد خسر النبلاء كل الامتيازات تقريبا ، لكنهم كانوا يستطيعون التحكم وبدرجة عالية بجانب من البلاد . الاّ ان حق العقاب بقي ساري المفعول . وكانت النساء والاطفال والخدم تقريبا بلاحقوق بالنسبة الى سيد العائلة .
في نفس الفترة بدأ الفلاحون تحرير ذاتهم . وفي فترة القرن الثامن
عشر ، اضطلع الفلاحون المحاصصون بمسئولية المزارع الاقطاعية تدريجيا ، ولكن حتى سنة 1919 اصبح النظام الاقطاعي ملغيا بحكم القانون ، وكل المزارع غدت ذاتية الملكية . وفوق ذلك الملكية الذاتية للفلاحين المحاصصين الذين يعتاشون على المزارع الكبيرة ، فقد كان هناك مزارع صغير في حقول صغيرة جدا ، وعدة مزارعي أرض ، وعمال باليومية ، من الذين يمتلكون او يؤجرون بيوتا صغيرة ربما مع حديقة صغيرة حول البيت ، حيث كان بالامكان زراعة قليل من الخضار . ان أطفال العمال – باليومية ، يتحتم عليهم العمل من الصباح الباكر مرتبطين بالمزارع بصفة حراس وهم من الاولاد والبنات غالبا مايكونون في الثامنة من العمر ولذا فان الذهاب الى المدرسة غالبا مايهمل بسبب عدم تخلي صاحب المزرعة عن قوة عمل الصغير في وقت الدرس . مع الاشارة الى ان المدرسة في الريف كانت مابين يوم وآخر .
كان الأب مايزال هو المقرر على كل من في البيت . وكان الذين يتزوجون من طبقات اقل او اعلى هم في عداد النزر القليل . ومن النادر ما يخرجون على اسلوب السير العادي للمجتمع الذي يعيشون فيه .وكثيرا مايرفعون انفسهم الى تعليم عال ، وكثير من الفلاحين الاغنياء قد بعثوا اولادهم العديدين الى كوبنهاغن من اجل الدراسة في الجامعة . ولم يشاؤا تقسيم المزرعة ولذا فقد كان هناك شخص واحد يستطيع أن يرث .
لقد توجه الكثير من العاملين في المزارع الى المدن ، فالظروف في الريف بائسة جدا . ونشأت الصناعة عند حصون كوبنهاغن التي كانت السبب في الحيلولة دون اتساع المدينة والتي هدمت في في القرن الماضي . كما نشأت مجمعات سكنية في فيستربرو ، ونوربرو ، وسونبو وهي منازل المضاربة التجارية على الأغلب . أقام الفلاحون هناك ، وحصلوا على اعمال في المصانع . كان على زوجة العامل أن تعمل هي الاخرى كيما تدبر العائلة شؤونها وكان لأغلبية الازواج أطفال كثيرون مع انه كان هناك امراض كثيرة وذلك بسبب الفقر والحاجة الى مبادئ الصحة والنظافة .
والسؤآل هو : هل التعامل بخشونة ، بحالات كثيرة، مع الاطفال، ان الأهل لايحبونهم ؟ طبعا لا . ان حب الأهل هو الشئ الوحيد الذي كان اكيدا مائة بالمائة ، ولكن الأوقات كانت صعبة والنظر في التربية كان مختلفا عما هو عليه اليوم في الدانمارك .
من المسلم به ان التربية كانت خشنة ، وفي كل ٍ من البيوت الكثيرة وفي المدارس كانت هناك ممارسة للضرب ، باليد او العصا لما هو صغير او كبير من الاساءات او فقط لأن ذلك هو جزء من الاعداد للحياة العنفية للمجتمع . كان على الأطفال ان يكونوا راضخين ، متواضعين ، ومطيعين . ان اطفال العامل يتركون الدراسة في سن مبكرة . وفي الرابع عشر من العمر ، بعد التعميد ، يجب عليهم ان يعملوا شيئا ما ، اما كسعاة او اطفال للمساعدة في العمل ، والبنات كخادمات ، وفي أكثر المصادفات حظا يجري وضعهم عند معلم الورشة ، وكانت العلقة غذاءا يوميا .
انه من النادر ، الى حد عام 1930 – 1940 أن يأخذ اطفال العمال امتحان الدراسة الثانوية او فرصة الحصول على تعليم عال ٍ .
حصل المرء يومها على التعليم ، وهوأما ان يكون يدويا او تعليما عاليا وأثناء ذلك يمكن للمرء وهو شئ مشرف أيضا ان ( يحتفظ بزوجته) في البيت !، وقد ظل ذلك ساريا الى فترة النصف من هذا القرن ولكن فجأة ، اندفعت الحياة المهنية وبقوة الى الأمام فخرجت المرأة الى سوق العمل جراء الحاجة الى اليد العاملة . ورغم ذلك فمازالت الحاجة الى تلك اليد ، وبذا فقد ارسلوا بطلبها من الخارج وبالذات من تركيا ، وبعدها فقد كانت الحاجة الى قوة العمل كبيرة .
أصبحت تربية الأطفال أقل عنفا  ، في آخر المطاف . واكتشف المرء بأن الأطفال هم أيضا بشر ويحتاجون الى الأمان والفرصة السانحة لعرض مهاراتهم في الحياة .
ان للأطفال الحق بتوقع اللياقة والأدب من الكبار . ان واحدة من النتائج الجيدة التي انجزت هي ان القانون في عام 1977 قد منع ضرب الأب لأطفاله . وقبل ذلك كان ممنوعا ان يضرب المرء الأطفال بقوة وقبلها ضرب الصناع ومتعلمي المهنة والخدم .
وحوالي عام 1950 ظهر عالم المودة الى العيان ، وكان في حوزة الشبيبة نقود أكثر من أي وقت آخر ، ومن ثم فقد كانوا أقرب من يتعامل مع المستقبل . وفي الولايات المتحدة ظهر مفهوم ( المراهقون ) ودخل الى الدانمارك بعد وقت قصير . اصبحت هناك ملابس خاصة لمجموعة الأعمار من 13 – 19 ، وقبلا كان يباشر المرء ملابس الطفولة بملابس الكبار . هذا وقد تزايد عدد الشبيبة أيضا في الحصول على تعليم جيد . وكان كل شئ جيدا خصوصا عندما دخلت الستينات ، ومثلما ورد أعلاه ، أقبل النمو والتطور في المجتمع الدانماركي .
عرف في الستينات ما يدعى بثورة الشباب التي أُلهمت وبدأت من الخارج . طلب الشباب المتعلمون ان يكون لهم القرار في تنظيم تعليمهم . في المدارس اصبح هناك مجلس الطلبة . وقبل ذلك فالشئ الوحيد الذي يستطيعون ابداء الرأي فيه هو لون ورق التواليت . ولكن هذا الشئ ذهب الى غير رجعة .
لقد أصبح في بلدنا ، ولفترة الخمس والعشرين سنة الأخيرة ، تراجع اقتصادي مؤسف ، وأيضا عطالة في مجال العمل ، وشروط محددة في الدخول الى التعليم . وأصبح المستقبل غير أكيد بالنسبة للكثير من الشبيبة . وغدت المنافسة قوية في المدرسة ، ولكن بظهور الشباب المتحرر ، والنبرة الحرة مابين اعضاء العائلة والمدارس ، ظهرت البحوث التربوية حول المائة سنة الأخيرة مشيرة الى تكون أجيال من الشباب الواعي والمعتمد على نفسه – الآن . وبمجرد أن يختاروا التضامن قبل الأنانية فانهم يستطيعون حمل لواء الوطن لألف عام قادم .
             ****************
* أطيب الذكرى والاكبار الى الفقيد كاي اولبيك سيمونسون ، عضو حزب sf  (الشعب الاشتراكي) ، نصير قضايا الشعوب العادلة وصديق اللآجئين في الدانمارك وكل مكان .