الإسلام والعنف

الواقع وتحدي الإرهاب وأزمة البناء التعليمي

الفهرس

 

*المقدمة

 

*الفصل الاول...............د. خالص جلبي
مشكلة العنف في القرآن
وهل يوجد في الإسلام لاعنف؟
(رحلتي إلى اللاعنف)

 

*الفصل الثاني................د. زهير المخ
آليات الإرهاب في العراق

 

*الفصل الثالث ..................د. أحمد أبو مطر
أهمية تغيير المناهج التعليمية في الوطن العربي ؟


المقدمة

 

 

كيف بدأت فكرة هذا الكتاب ؟

   إن ما يجري في العالم العربي وخاصة في القطر العراقي العامين الماضيين جعل المشهد العربي في الداخل والخارج من الصعب تصوره أو فهمه ، وقد بدى وكأنه لوحة سيريالية لا يتفق إثنان على شرحها أو تفسيرها، وخاصة ما استجد بعد سقوط النظام العراقي في ابريل من العام 2003 .

   فرغم أن هذا السقوط أدى الى تخلص الشعب العراقي من نظام إستبدادي إرتكب بحقه العديد من الجرائم الفردية والجماعية ، إلا أن تقييم هذا السقوط إختلف بشكل مريع في عموم الأقطار العربية ، فهناك من ما يزال يبكي على سقوط ذلك النظام ويصوره على أنه نظام وطني ، وهناك من يعترف بإستبداده وجرائمه ولكنه لم يعجبه سقوطه بمساعدة قوى أجنبية دون أن يجيب على سؤال: وهل بدون مساعدة تلك القوى ، كان من الممكن إسقاطه وقد إستمر على قلب الشعب العراقي قرابة أربعة عقود، دون أن تبدو أية إمكانيات لتحرك داخلي يؤدي إلى إسقاطه ، رغم الحديث الموثق داخل العراق وخارجه عن جرائم ذلك النظام وتعدياته على الشعب العراقي ، وعلى جيرانه من دول إسلامية وعربية . وهناك الغالبية العظمى من العراقيين قد أعلنوا إبتهاجهم وفرحتهم لسقوط ذلك النظام ، وقد عبر العراقيون عن ذلك بخروجهم في نهاية يناير 2005 بالملايين الى صناديق الإقتراع ليمارسوا حقهم لأول مرة في إنتخابات ديموقراطية مباشرة رغم هول العنف الذي كان وما يزال يسود الشارع العراقي.

   هذا العنف الذي إختلف العرب في تقييمه وتسميته، فهناك من يعتبره إرهابا واضحا صريحا، والآخر يعتبره مقاومة وشريفة أيضا، ومن خلال تنظيرات هذا الآخر بدأ تدفق الشباب من الجوار العراقي وخارجه لدخول العراق بأية وسيلة للمشاركة فيما يسمونه مقاومة ، مقابل الأغلبية العراقية من كافة الإثنيات والطوائف التي تعتبر ذلك إرهابا صريحاً يستهدف حاضر الشعب العراقي ومستقبله بدليل الإصرار على مواصلة الإستعدادات لبناء وتمتين الجبهة الداخلية ومقاومة هذا العنف، الذي أساء بشكل صريح لصورة العربي المسلم التي اصبحت في الدوائر العالمية الرسمية والشعبية ، هي صورة الإنسان الذي لا يعرف إلا العنف والإرهاب الأعمى خاصة بعد أن إستهدف هذا العنف الشخصيات التي لا علاقة لها بالخلفية السياسية لما يجري في العراق ، كالصحفيين والدبلوماسيين والمدنيين العاملين في مؤسسات إنسانية ، كما إستهدف منظمات دولية كالصليب الأحمر وهيئة الامم المتحدة .

   إزاء هذا المشهد الملتبس جاءت فكرة هذا الكتاب ليجيب على الأسئلة التي بدأت تتفاعل في الشارع والذهن العربي ، وبعد مداولات وإتصالات مع العديد من الكتاب والمثقفين، إستقر الرأي أن يقوم الدكتور خالص جلبي بكتابة الفصل الأول من هذا الكتاب، ليقدم الخلفية والإطار الفكري لتلك الأسئلة الخاصة بهذا العنف وعلاقته بالإسلام، خاصة أن بعض من ينّظر لهذا العنف يحاول أن يجد له خلفية إسلامية حتى ولو عبر لوي عنق الحقائق وتفسيرات قصرية لآيات من القرآن الكريم ووقائع من التاريخ الأسلامي، وكذلك ليقدم الوجه الآخر للإسلام الذي يتجاهله الكثيرون ، وذلك عبر سؤاله ( وهل في الإسلام لاعنف ؟ ) ، ولن أذكر في هذه المقدمة الإجابة التي توصل اليها الدكتور خالص جلبي، لأترك الفرصة للقارئ للوصول الى الإجابة ، عبر هذا الكم الهائل من المعلومات والأدلة من القرآن الكريم والتاريخ الاسلامي التي يوردها الكاتب بأسلوب إيماني ممتع ، ينطلق من خلفية الباحث المتمكن الغيور على صورة المسلم والإسلام في ظل التشويه الذي لحق بها ، ليس ممن يمارسون هذا العنف فقط ، ولكن ممن ينظّرون له أيضا .

  ولتقديم ما يثير العديد من الأسئلة ، فيما يخص الإلتباس السائد حول ما يجري من عنف ، يكتب الدكتور زهير المخ ، الفصل الثاني من الكتاب بعنوان ( آليات الإرهاب في العراق )  في محاور ثلاثة ، يدرس في المحور الأول (مصادر الإرهاب في العراق ) ، حيث يفكك البنى التنظيمية للجماعات المختلفة التي تمارس هذا الإرهاب ، عبر أجنداتها الخاصة  التي سيكتشف القارئ من خلال المحور الثاني ( تخريب الموزاييك العراقي ) ، أنها أجنـدات لن ينتج عنـها إلا ( إغتيال مستقبل العراق ) ، الذي هو موضوع المحور الثالث، وذلك عبر عرض وثائقي مقنع ، تتميز به كتابات الدكتور زهير المخ، وفيما يخص المحاور الثلاثة لهذا الفصل، فإن ما تم تقديمه ودراسته بهذا الأسلوب التحليلي الهادئ ، لو قرأه أغلب منظّري ذلك الإرهاب ، أعتقد أنهم لن يختلفوا مع الكاتب ، على أن ما ينظّرون له ، لا يمكن تسميته إلا أنه (إرهاب) ، ولنترك الحكم لكل قارئ .

   ولما كان من ضمن الأسئلة المطروحة ، لماذا كل هذا العنف وما هي خلفيته، كتبت الفصل الثالث حول ( المناهج التعليمية والتربوية ) السائدة في الوطن العربي طوال القرن الماضي ، محاولا إثبات أنها مناهج تغذي هذا العنف ، ولا تراعي التقدم العلمي والتكنولوجي، وهذا ما يفسر دخول شعوب فقيرة العصر النووي منذ عقود طويلة ، والأقطار العربية رغم كل ما فيها من امكانيات مادية وطبيعية ما زالت في عصر البخار ، لأن هذه البرامج التعليمية والتربوية ، لن ينتج عنها إلا العنف والتخلف والبقاء خارج إطار العصر .

هذا الكتاب، قصدنا منه إثارة الأسئلة في العقل العربي والمسلم ، إنطلاقا من خلفية وعقل الإنسان الذي يؤلمه ويدمي قلبه ، الواقع العربي خاصة ما تجلى في العراق على مدى السنتين الماضيتين ... هذه هي أسئلتنا وكما نرى إجاباتها ، وعلّها فرصة للقارئ ليضع أجوبته الخاصة بعد قراءته هذا الكتاب .

 

أحمد أبو مطر

 


الفصل الاول

 

 

مشكلة العنف في القرآن

وهل يوجد في الإسلام لاعنف؟

(رحلتي إلى اللاعنف)

د. خالص جلبي

 

مقدمة فكرية وخلاصة مكثفة للنظرية

 

 في عام 1997م دعيت إلى عمان للمشاركة في ندوات فكرية قدمتها مؤسسة سجى للإنتاج الفني، واجتمعت هناك بطائفة كبيرة من المفكرين المرموقين، الذين يعتبرون قمم الفكر الإسلامي، وكنت أنا وجودت سعيد نمثل فكرة اللاعنف في هذا المؤتمر.

ويومها اجتمعت بثلاث أشخاص أراهم للمرة الأولى، فقالوا لي أنت الذي يقول بعدم الدفاع عن النفس؟ وعدم استخدام القوة في تغيير الأوضاع؟ قلت نعم؟ وكانت أحداث سبتمبر لم تولد بعد؟ فبدأ أوسطهم في الحديث، وأصبح مقدم برامج في قناة الجزيرة لاحقاً، فضحك علي حتى وقع على ظهره من سذاجتي وقلة خبرتي وعدم فهمي للنصوص القرآنية، والرجل انتقل إلى رحمة ربه الآن وأصبح في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

ولقد أصغيت بحذر لكلام الثلاثة لمدة 25 دقيقة بدون تعليق حتى إذا فرغوا قلت لهم: لاجديد عندكم وبإمكاني أن أعطيكم أسلحة جديدة من الأفكار تتسلحون بها ولكن لماذا أسهل مهمتكم، وكل الإفكار التي ذكرتموها معروفة ومردود عليها؟

 قال الأول من جديد: أنت تتحدث باللاعنف والتاريخ كله دم فهل هناك شاهد واحد للتغيير الاجتماعي بدون دم؟؟ قلت له إن أعظم ثورة اجتماعية على الإطلاق في التاريخ لم تكن البلشفية ولا الفرنسية، وهي ليست بتلك النماذج المشرفة، ولا حتى الإيرانية التي بدأت باللاعنف وختمت بيد المجرم الخلخالي وأضرابه في حملات الإعدام التي لم تتوقف، ولكن ثورة محمد ص حدثت وتمت ونجحت بخسارة شهيد واحد، وكانت امرأة هي (سمية) التي لم تدافع عن نفسها، فهل هناك أسلوب اقتصادي أفضل من هذا للنجاح الاجتماعي؟

وعند هذه النقطة يقفز الجميع ويقول ما بال الغزوات والسرايا والفتوحات؟ وعند هذه النقطة نبق في ضباب أشد من عسير ولندن؟ وهو أن محمد ص أقام دولة وبنى مجتمعا باللاعنف.

وهنا يقولون أن المسيح لم يستخدم قوة مسلحة ومحمد ص استخدمها، والاختلاط يأتي من مرحلة (الدعوة) و(الدولة)، لأن الدولة هي التي تمارس العنف منذ أن  اخترع البشر الدولة وصنعوها، بسبب بسيط أن الدولة باحتكارها العنف توفر الأمن للأفراد كي يتمكنوا من إقامة الحضارة، فلولا (الأمن) ما نشأت وحدات الحضارات، والرسول محمد ص يختلف عن المسيح عليه السلام، أن الثاني لم يكمل عمله، والأول أكمله، وكان المسيح يلوح أحيانا باستخدام القوة فقد جاء في  الأنجيل: ما جئت لألقي سلاما بل سيفا؟، وبالمقابل كان الرسول ص يوصي أتباعه في المرحلة المكية بعدم الدفاع عن النفس، ونزل القرآن يقول: "كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة". وكان يكرر النبي ص لأتباعه: لم نؤمر بقتال؟

والسيف في الإنجيل إشارة إلى ما فعله محمد ص بعد إقامة الدولة، في ممارسة العنف بعد احتكار القوة، التي هي وظيفة كل دولة، ولا يمكن أن تقوم دولة بدونها عمليا حتى اليوم، فالدولة كنظام سياسي لها (وظيفة) أولى هي توفير الأمن داخلها للأفراد باستخدام العنف، يظهر هذا واضحا في منظر رجل الشرطة والمسدس يتدلى من خصره حينما يستدعى للفصل في حادث سيارة، في أي مكان في العالم اليابان أو ماليزيا أو أمريكا وكندا، ولا أظن أن (الريجيه) المؤسسة الكندية للفصل بين مالك البيت والمستأجر تتواني عن استخدام الشرطة، فيما لو حكمت القاضية بخروج المستأجر وعودة البيت لمالكه الأساسي، ورفض المستأجر الخروج من المنزل؟؛ فداخل أي دولة في العالم، تمارس أي دولة إذا لزم الأمر القوة المسلحة لتطبيق القوانين داخلها، والدفاع عن نفسها في الهجوم عليها من الخارج في الحروب، وهذا له حديث آخر لاحقاً. وحديثنا يدور حول موضوع (كيفية صناعة المجتمع؟) هل ينشأ بالقوة العسكرية أم سلميا؟ وما أهمية ذلك؟ ولماذا حرص كل الأنبياء على سلوك نفس الطريقة؟ ولقد جاءك من نبأ المرسلين؟ وهل يزال الطاغوت بطاغوت القوة؟ أم يزال الطاغوت بالشرعية؟ فهذا ما فعله محمد ص، وما كان يحاول المسيح عليه السلام وغيره من الأنبياء فعله، من إزالة الطاغوت بالشرعية سلمياً، ولم يكمل المسيح عمله، واكمل محمد ص عمله، مما جعل اليهود في المدينة حين سمعوا الآية: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" أن قالوا لو نزلت هذه الآية علينا لجعلنا يومها عيدا. وهو الذي جعل الفلكي الأمريكي (مايكل هاردت) في كتابه (العظماء المائة أولهم محمد ص) والذي سرق كاتب عربي كتابه ونسبه لنفسه؟ أن يعتبر محمد ص ناجح نجاحا باهرا مائة بالمائة، ليس مثل انتخابات أصنام العالم العربي من نماذج صدام الوحش، أو انتخابات حزب البعث في سوريا، فاستحق محمد ص أن يكون أفضل الرجال في التاريخ.

وفي جلستي تلك أذكر الثاني أيضا وكان مفكرا إسلاميا فلسطينيا فكان يصر على أسنانه غضبا وغيظا، وفي النقاشات  التي دارت في لقاءات المؤتمر (سجى) صرخ يوما: لاتسمعوا لجلبي فهو يستند إلى آية من القرآن ونبيه رجل من الهند اسمه غاندي، فقام رجل فرد عليه وقال إن جلبي يدعو إلى حقن الدماء و(فلان) يدعو إلى سفك الدماء؟ مما جعل قياديا إسلاميا معروفا في الأردن أن يقفز ويتناول الميكروفون بسرعة ويقول يجب أن أدافع عن الرجل قبل أن يصبح اسمه في المطارات؟

ومن أعجب ما قرأت للرجل لاحقاً، إنني كنت أتصفح يوما جريدة الحياة، وإذا بالرجل نفسه يكتب في اللاعنف؟؟ مما يدل على ان الذي يغير عقلية الناس ضغط الأحداث أكثر من القناعات العقلية.

وينقل عن ماكس بلانك الذي كان أول من طور (ميكانيكا الكم) عام 1900م قوله: إن العالم لم يعترف ويسلم بأفكاره الجديدة في الفيزياء وينال جائزة نوبل عام 1934م حتى مات معاصروه. وهو الذي كان يقوله محمد ص أنه يطمع أن يخرج الله من ذراري المشركين من يعبد الله ولايشرك به شيئا.

وحينما يتحدث صاحبنا الفلسطيني عن اللاعنف فهو تقدم في مسارين: المسار الفلسطيني، وتغير عقلية أشد الناس صرامة في وجه تيار اللاعنف الذي هو رحمة للعالمين.

وبقي الرجل الثالث من الجلسة وهو الأخ الفاضل الوسيم العاقل (جمال الخاشقجي) رئيس تحرير جريدة الوطن السعودية السابق، الذي قال لمن حوله ياجماعة انتبهوا لهذه الأفكار فأنا في جعبتي خبرة واسعة من العمل الإسلامي في أفغانستان، وهو كلام جدير بالتأمل، واستفاد الرجل مما تكلمت، وأكرمني لاحقاً أن ضمني إلى باقة الكتاب عنده في الجريدة فكتبت 441 عمودا، حتى طار هو من الجريدة، وبطيرانه طرت أنا لاحقاً، وكله بسبب الفكر السلامي العقلاني الانفتاحي فدفع الرجل ثمن أفكاره.

وفي يوم اجتمعت في بيروت مع رجل مرموق من قيادات العمل الإسلامي الذي انشق وأنشأ له تيارا خاصا في السعودية عرف باسمه، ونشر كتابا بعنوان (وجاء دور المجوس) هاجم فيه الثورة الإيرانية تحت اسم مستعار، وسمى الأيرانيين بالمجوس، وكان برفقته رجل مهم من الأدمغة الإسلامية الحزبية فذكروا نظرية جودت سعيد في اللاعنف الإسلامي الذي أعلنه عام 1964م بكتاب بعنوان (مذهب ابن آدم الأول) استند فيه إلى الآيات الموجودة في سورة المائدة عن قصة ولدي آدم، وهي قصة ملفتة للنظر بقدر هامشيتها وغموضها في الثقافة الإسلامية، وأتذكر من السيد صاحب كتاب وجاء دور المجوس قوله إن جودت سعيد (مخلص) ولكنه (غير واعي)، وهو مع زميله اعتبروا أنفسهم واعين جيدا؟ وجودت سعيد ساذج مغفل، لأنه يدعو إلى السلم، ولا أظن أن شيئا تغير منذ أربعين سنة حتى الآن في موقف جودت سعيد والرجلين اللذين ذكرت، ولكن الذي تغير هو أن مرض العنف ارتطم بالبرجين في نيويورك؛ فلم يعد محليا عربيا؛ بل متفجرات على مدار العالم، ومصيبة كونية، وحروب تندلع، وقوى أجنبية تتدفق إلى أفغانستان والعراق، والمنطقة تتعرض لرياح تغيير عاصفة قاصفة؟ ومن لم يغير ما بنفسه أرسل الله إليه ما يدفعه إلى التغيير، ومن يغفل عن سنن الله ، فإن سنن الله لاتغفل عنه. كان في الكتاب مسطورا.

وهذه الإشكالية واجهتني أيضاًُ في مؤتمر فرجينيا في أمريكا عام 1993م حين دعيت للمشاركة في مؤتمر التعددية الذي نظمه المؤتمر العالمي للفكر الإسلامي، ولم يكن أحد قد سمع بعد بأحداث سبتمبر، فنبهت العيون إلى مخاطر العنف، وكان في المؤتمر رجال فكر مرموقون من الاتجاه الإسلامي وغير الإسلامي، وكان جواب رئيس المعهد يومها: أن عندنا من المشاكل كفاية ولا نريد زيادة، ولا أدري إن كان يذكر كلماتي الآن، وممن اجتمعت بهم  رجل فاضل ومعتقل حاليا في أمريكا، وجماعة المعهد الفكري الإسلامي العالمي أظن أن معظمهم غادر أمريكا، بعد المضايقات الشديدة التي تعرضوا لها، وقام يومها حافظ الميرازي الذي يلمع حاليا في قناة الجزيرة فاستضافني في قناته الأمريكية يومها مع المذكور واظن أن اسمها كان (ANN) وكان سؤاله كيف أفهم موضوع سلمان رشدي؟ وكان جوابي: أننا يجب وضعه ضمن إطار اللاعنف الذي أنادي به أو ما أسميه شعار العلم والسلم.

ومما أذكر من الستينات ونحن نقرأ كتاب معالم في الطريق لسيد قطب أننا دخلنا في نقاش ضاري حول قتال الدولة الكافرة، ومنها نظام البعث في سوريا، ونظام عبد الناصر في مصر، حتى جاء اثنان من السوريين كانا يدرسان الطب في مصر فرويا لنا الاستعدادات العسكرية لمواجهة النظام الناصري في مصر، وأكدت لي هذا الكلام زينب الغزالي حينما زرتها في مصر، وتأكد لي من كتاب المعالم أن الأمر جد وليس بالهزل، فسيد قطب كان يرى أن الفكر يواجه بالفكر، ولكن النظام الكافر ـ ومنه النظام الناصري حسب وجهة نظره ـ يستخدم الفكر والقوة المادية لصرف الناس عن الحق، ولذا كان من العقل والحكمة استخدام المواجهة الثنائية المنافقين بالموعظة والكافرين بالفكر والصدمة المادية، والإعداد المسلح لحين شعور التنظيم بالقدرة على قلب نظام الحكم بالقوة المسلح، وأطلق على هذا التنظيم اسم القاعدة الصلبة الواعية كما يرد الاسم حاليا في أفغانستان، والذي نقله الظواهري في الأغلب من مصر إلى أفغانستان.

أذكر هذه الأحداث من أجل الدخول إلى الموضوع كم هو حساس وغامض، وخاصة في إطار الثقافة الإسلامية، ففي الغرب نشأت مؤسسات لاعنفية عريقة، وحاليا هناك من يضع قواميس كاملة لهذا الحقل المعرفي بعد أن نما كاتجاه وكوكب كامل بإحداثيات مغايرة مثل الفرق بين الأرض والمرخ، فالغازات مختلفة والضغط متباين وجو المريخ براد ستين درجة تحت الصفر، والأرض فيها حقول مغناطيسية تسمح بوجود الحياة وتحفظها، والمريخ كوكب ميت، وثقافة العنف موت وقتل، وثقافة اللاعنف حياة وسلام ووئام وحب. وكأن الاثنتين مثل آدم والشيطان، فثقافة السلام روح وريحان وجنة نعيم،  وثقافة العنف من مارج من نار، فبأي آلاء ربكما تكذبان؟

وفي هذه البحث المختصر سوف أحاول استعراض أهم الأفكار المتعلقة بهذا المذهب، الذي يقول: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا، واستعدادنا لوضع يدنا في يد من يؤمن بالسلام ولو لم يستقبل الكعبة يوما، وعدم وضعها في يد من يؤمن بالقتل ولو حج كل سنة وقام الليل وصام الدهر؟ لأنه سيضحي غدا بنا، فلا أمان معه ومنه، أما من يؤمن بالسلام فلا خوف منه ولن يؤذي أحدا مهما اعتقد ودان، وهي فكرة مزلزلة للأصوليين، ولكنها مذهب السلاميين. وهو الإسلام صدقا وعدلا. 

إن أول تساؤل وجهته الملائكة لحظة خلق الإنسان عن جدوى وجود هذا الكائن القاتل " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟".  فلم تقل أتجعل فيها من يكفر بك بل أتجعل فيها من يقتل؟

وهذا يعني أن مسالة العنف واللاعنف مسألة وجودية.

وأول جريمة قتل حدثت على الأرض كانت بين ولدي آدم، فقال الأول: لأقتلنك وقال الثاني: لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين.

ومن هذه القصة تتولد تلقائيا طريقتان لحل المشاكل: من يهدد ويقتل. ومن لايهدد، ولا يخاف من التهديد،  ولا يمد يده بالقتل، ولا يدافع عن نفسه أمام القتل أي أن هناك مذهبان في العالم: الدموي والسلامي وهذا يعني أن مسألة العنف واللاعنف هي مسألة التاريخ.  وحسب هيروقليطس( فالحرب أبو التاريخ.

ومن يطالع التاريخ خلال أكثر من ثلاثة آلاف سنة، منذ عرفت الكتابة في صحف إبراهيم وموسى، يصل إلى إحصائية مخيفة تقول: أن كل 13 سنة من التاريخ سادت فيها الحرب يقابلها سنة واحدة من السلام، كما اكتشفها (غاستون بوتول) الذي درس ظاهرة الحرب، فهل هذا قدر إنساني أم ثقافة؟

وحسب تحليل الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل): فإن انتقال الإنسان من الغابة إلى الدولة كان خيارا ذو اتجاه واحد من الفوضى إلى الطغيان. وهو خيار أحلاهما مر، فلم يكن السلام ممكناً بين الناس في الغابة، كما لم يستتب السلام بين الدول حتى اليوم.

وحسب (ابن خلدون) في مقدمته الشهيرة فإن (المجتمع) للإنسان يشكل ضرورة بسببين: الغذاء والدفاع.

ويقول عن الغذاء أن رغيف الخبز يحتاج إلى صناعات لانهائية في شكل شبكة من التخصصات، وهذا غير ممكن بدون وجود المدينة أي المجتمع الإنساني، ولولا مجتمع المدينة لم تتشكل الحضارة، فالحضارة ظاهرة نشأت تحت السقوف،  وهذا قاده إلى فهم (ضرورة) وجود المجتمع، وبدون وجود المجتمع لم يوجد الإنسان. ولا ينطق الإنسان إلا بوجوده مع بشر مثله.

وحسب (مالك بن نبي) المفكر الجزائري فإن المجتمع للإنسان يعني نقل الإنسان عبر معادلتين بيولوجية وثقافية، فالأولى تعني الفرد والثانية تعني الشخص المكيف اجتماعياً.

وكل الدراسات الأنثروبولوجية أكدت على أن المجتمع للإنسان يعني نقلته من البهيمية إلى جعله بشرا سويا، والطفل الذي يولد في الغابة ويحافظ على وجوده لايزيد عن ذئب، بل هو أضل سبيلا، في رتبة حيوانية أضعف من الحيوانات. أكد هذا بيتر فارب في كتابه (بنو الإنسان) من تجربة الدكتور (ايتار) على صبي أفيرون الوحشي.

ولكن مشكلة خروج الإنسان من الغابة ودخوله المجتمع جعلته مثل الفأر الذي استأجر لنفسه مصيدة. فخرج من فوضى الغابة ليقع في قبضة طغيان الدولة، كمن يهرب من المطر إلى ما تحت المزراب، ولم يكن من هذا بد، كما ذكرنا ذلك من الأفكار السابقة. فكانت الدولة ومجتمع المدينة جميلة من جانب، ومصيدة وورطة من جانب آخر. 

وصراع الأفراد غير الحروب فالحروب هي ظاهرة صراع الدول أو تفككها كما رأينا في يوغسلافيا ولبنان.

ويرجع صراع الإفراد إلى تركيب الدماغ، فدماغ أحدنا مركب من ثلاث طوابق، أعلاه الحديث وعمره نصف مليون سنة، أما الدماغ السفلي والمتوسط وهما مسئولان عن المراكز الحيوية والعواطف فعمرها أكثر من مائة مليون سنة، وبينهما قدر من التفاهم، وبذلك فإن دماغ أحدنا فيه ثلاث أدمغة وليس واحداً وبثلاث لغات وبدون ترجمان، والانسجام موجود بين الدماغين السفلي والمتوسط منذ مائة مليون سنة، خلافا للدماغ الجديد المتشكل منذ نصف مليون سنة، وغير المنسجم والمتفاهم مع الدماغين الآخرين.

وهذا يعني أن العدوانية مغروسة في البيولوجيا ولسبب حيوي فالغضب والانفعال آليتان للحفاظ على الحياة، ولولا الغضب ما عاش الإنسان، ولكن المشكلة كما جاء في كتاب (الذكاء العاطفي) أن تكون العواطف بما فيها الغضب تحت سيطرة الدماغ العلوي، الأحدث والأكثر تطورا والتي تميز الإنسان عن البهيمة، وهو أمر تربوي، وهذا الوعي الخاص كسبي، كما يقول (إقبال) في كتابه تجديد التفكير الديني، والإنسان يولد من بطن أمه لا يعلم شيئا، ثم يبدأ العقل السنني في التكون، وهذا يحتاج إلى تأسيس كل مرة، ومن ينظر في كيفية أكل الحيوانات بعضها بعضا، يدرك أثر هذا في تصرف البشر، الذين هم ثلثان من تمساح وسبع ضاري، فوقه ثلث من كائن عاقل يحاول ضبط الوحشين.

وحسب كتاب (الذكاء العاطفي) لـ (دانييل جولمان) فإن الدماغ المتوسط موضع العواطف مهم جدا للتصرف، ومركزه في الأميجدالا في الفص الصدغي، ولكنه مرتبط بالدماغ العلوي، وعدم انضباط هذا المركز العاطفي مع قشرة الدماغ العليا، هو الذي يقود للانفجارات العاطفية وكوارث الانفعال وبالتالي يفسر (لا منطقية) الإنسان.

وكما وجد الصراع وعدم الانسجام في البيولوجيا فهو في علم الاجتماع أشد، فالفرد حينما خرج من الغابة ودخل الدولة لم يعد في مقدوره حل نزاعاته مع الآخرين بالقوة، مع كل زخم اندفاع القوة الحيوانية من التمساح والسبع، بسبب أن الدولة تحتكر القوة فتحكم بين الأفراد فيما كانوا فيه هم مختلفون.

ولكن كما يقول عالم الاجتماع العراقي (الوردي) فإن هذا لم يوجد بين الدول، فالدولة تملك الإفراد، ولكن لايوجد دولة عليا تملك الدول. وهنا وفي هذه النقطة تنشب الحروب وصراعات الدول.

والدولة بوظيفتها الأساسية من (توفير الأمن) للأفراد تجعل الحياة متحملة، وأي نزاع ينشب بين الأفراد تتدخل الدولة ولو بالقوة المسلحة العارية فتفضه، ولكن لاتوجد مثل هذه القوة بين الدول، فاستمرت الحرب بين الدول حتى اليوم، وأي مراقبة للصراع البشري في ظاهرة الحرب تتبدى هذه الظاهرة على شكل واضح.

وجمعية الأمم المتحدة وما شابه هي محاولات متواضعة لإنشاء مثل هذه القوة العالمية التي تفك النزاعات بين دول المعمورة، ولكن لم يتحقق هذا حتى الان، وأعظم مرض أصيبت به البشرية هو ولادة مجلس الأمن المشئوم، الذي أعاق ولادة العدل حتى اليوم، وربما وقد تكون الوحدة الاوربية نواة مثل هذا المشروع التاريخي.

وكان بالإمكان لأمريكا أن تقوم بهذا الدور ولكنها قوة استعمارية تبغي الربح والهيمنة، وليس عندها روح العدالة والرسالة، ولذا فهي مكروهة من معظم أهل الأرض، وهو قدر كل قوة استعمارية تهدف الهيمنة على امتداد التاريخ.

ومع سيطرة الدولة على الأفراد لحل النزاعات داخل مربع الدولة الواحدة نشأ تلقائيا مرضان خطيران: الحرب مع الدول المجاورة. والطغيان الداخلي.

ومن أجل هذين المرضين بعث الإنبياء: التحرر من الطغيان الداخلي ونشر السلام بين الأنام. وبهذه الطريقة نفهم معنى مجيء الأنبياء في التاريخ وطريقتهم في التغيير السياسي القائم على فهم عميق للإنسان: أن أفضل ما يؤخذ من الإنسان هو بالإقناع والإيمان وليس بالكره والإكراه.

وإذا كانت هذه رسالة الأنبياء جميعا فكيف نفهم نصوصاً من القرآن تحض على القتل كما جاء في سورة الفتح عن الاعراب (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم شديد تقاتلونهم أو يسلمون) أو الآيات النارية  في القتال في أمكنة أخرى مثل سورة التوبة، "قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين" أو "فاقتلوهم حيث ثقفتموهم" وهذا المعنى أشكل على احد الكتاب ممن وصلتني مقالته بالانترنت فقال بأن القرآن كتاب عنف وأنه مصدر كل هذا الإرهاب في العالم، وهو تهور منه واستعجال وعدم إدراك القرآن والتاريخ والسياسة والإنسان والمجتمع.

يصف (أورهان بيار): اللاعنف في الإسلام في الفترة المكية أنه " غير مرتبط بالتسامح كما هو معروف عند رموز اللاعنف (النبي عيسى , ماني . غاندي) بل تسامح غير القادر على الرد بالمثل فالآيات لا تحرض على القتل والحرب لكنها تتوعد غير الموالين للدعوة الجديدة بشر العقاب وبنار جهنم ".

اي أن القتل والقتال أصيل في الإسلام أخفى وجهه لمصلحة تكتيكية.

ليمضي فيقول أنه لاحقاً:

 "تظهر له كلمتا الغزو والسبي ومدى تأثيرها في الحياة القبلية ويبدل هاتان الكلمتان بأخريين الفتح والغنيمة ويدعمه القرآن في الوسيلة الجديدة لنشر الدين ويبدأ الإسلام بولادته الجديدة كحركة عنفيه تقوم أساساً على الفتح و جمع الغنائم وهذا ما يرجوه كل أعرابي وبهذا الشكل ومع أول نصر لمحمد في بدر تكبر الحركة ككرة الثلج المتدحرجة من أعلى الجبل".

ثم ليكشف الإسلام القناع عن وجهه الحقيقي حين يقول:

" ينتفي هذا الخيار الديمقراطي ليتحول الأمر إلى تخيير بين قبول الإسلام أو الدخول في طاعة المسلمين"

ليقرر السيد أورهان هذا الحكم أنه :

" من خلال مراجعتي المقتضبة لبعض جوانب العنف في المرجع الإسلامي الرئيسي توصلت إلى أنه لولا العنف الذي أستخدم بكثافة شديدة لما تمكن محمد ولا من خلفه من نشر عقيدتهم"

أو يقرر:

" كما توصلت إلى أن الأسلوب العنفي والإسلام شيئان متلازمان لا يمكن فصلهما فكل شعب يسلم يتحول إلى الناطق بالحق والمسؤول عن أوامر الله على الأرض ويبدأ باحتلال واستعمار الغير باسم الفتح فما علاقة البرابرة الترك ونشر الإسلام واحتلال أوربة وهم أبعد البشر عن الحضارة في الفترة السلجوقية والعثمانية ".

وينتهي الكاتب أورهان إلى هذه الخلاصة:

" إن العنف المنفلت من عقاله الذي نعاني منه اليوم منبعه الرئيسي هو النص القرآني الذي يحلل قتل ومعاداة ومحاربة المخالف مهما كان , فالإسلام لا يقبل الاختلاف والعالم في نظره قسمان لا ثالث لهما مسلمون وكفار وواجب المسلمين هو الجهاد في سبيل الله وهو محاربة الكفار حتى ينصاعوا لكلمة الله بقبول الإسلام أو الخضوع والاستسلام للمسلمين".

والواقع فإن السيد أورهان بيار ليس الوحيد ولا الأول ولن يكون الأخير قطعاً الذي لا يفهم القرآن وينطح جدار التاريخ بدون أثارة من علم. وهو الشيء الذي سوف يجب فهمه تحت فكرة (البنيوية في القرآن) أو التراكب الموضوعي. أو (المنطق الداخلي للقرآن). فآيات القرآن مثل نجوم السماء متناثرة نزلت على مكث، حسب المناسبات والأوضاع النفسية، ولا تبوح بأسرارها إلى من عاش هذه الظروف النفسية، كما حدث معي في سجن الشيح حسن في دمشق حينما قرأت الآية أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون؟ فكأنها نزلت علي يومها وأعطتني من الهدوء الشيء الكثير، ولايوجد في نهاية القرآن فهرس لموضوعاته، ولذا يجب أن نفعل كما فعل (تيكي براهي) و(يوهان كبلر) حينما نظرا في النجوم فخرجا بنظام خاص ومنطق خاص في عالم النجوم وكذلك آيات القرآن المنجمة.

وبالمقابل فقد جاءتني رسالة أخرى بالاتجاه المعاكس تماما من رجل فاضل هو (م. ص) الذي يقول إننا لانوافقك فيما تذهب إليه في مذهب اللاعنف، فلم يفهم رسالتي تماما، ولم يستوعب رسالتي في مئات المقالات التي كتبتها تماماً؛ فالرجل يذهب في تفسير صراعي ولدي آدم إلى تفسير جديد، يقول فيه إن الذي قُتِل (بالضم) كان سيدافع عن نفسه، كما جاء في قصة ولدي آدم التي أشرنا إليها أن هناك مذهبان: من يؤمن بالقتل سبيلا لحل المشاكل، ومن لا يهدد ولا يخاف من التهديد ويستعد للموت من طرف واحد دون مد اليد بالأذى للآخر.

قال الأخ إن القتل كان غيلة، وأن ابن آدم الذي أعلن موقفه أنه لن يقتل ولو بسط الأخر له في اليد كان كاذبا مدعيا متظاهرا، فلو شعر بأن أخيه توجه له ليقتله لمد يده إليه بالقتل، وهذا تكذيب للقرآن والنبي والصالحين ومبدأ الفلاسفة وطريقة الأنبياء في التغيير. وقتل لكل الحكمة الموجودة في الآيات من سورة المائدة، والتي ختمها القرآن بقوله: من أجل ذلك؟؟ أي أن القصة سيقت لأخذ العبرة، وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون. 

ومما جاء في أحاديث الفتنة التي لم يطلع عليها الأخ إشارة واضحة إلى مذهب ابن آدم في عدم الدفاع عن النفس، وهي عشرات الأحاديث المغيبة في تراث تشرب بالدم، بأشد من بني إسرائيل الذين أشربوا في قلوبهم العجل.

قال الأخ:  "و لا نتخيل أن قابيل عندما جاء لتنفيذ جريمته، أن أخاه قد وقف أمامه مبتسماً محبّاً و هو يراه يرفع الفأس ليهوي بها على رأسه، بل يغلب الظن أن القتل كان غيلة، و ليصحح لنا الدكتور إن كانت لديه معلومات أفضل" ولا أعرف كيف وصل إلى هذا الفهم المنكوس على رأسه؟

وهذا الاختلاط عند الكاتب المذكور جاء من فكرة (الدفاع عن النفس)، ونسي الحديث الذي يقول أن القاتل والمقتول في النار، لأنهما انطلقا من نفس القاعدة النفسية " إنه كان حريصاً على قتل صاحبه"

وهذا الاختلاط في فكرة الدفاع  عن النفس منشأها أن الصراع البشري ينفجر عند هذا المنعطف تماما في تصور كل واحد أنه يدافع عن نفسه؟ فالعمل مبرر مشرعن، ولكن من المدافع ومن المهاجم؟ لقد قالت إيران والعراق نفس الكلمة في الحرب العقيم التي لم تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم؟ وكل الحروب نشأت تقريبا بنفس الحجة، والفيلسوف الألماني (فردريك نيتشه) يقول: إن كل وزارات العالم المخصصة للقتل والقتال اسمها (وزارة الدفاع) وهي مخصصة للهجوم، فلم نسمع عن دولة سمت وزارة الحربية عندها (وزارة الهجوم)؟؟ ، ويقول نيتشه أن هذا العنوان يحمل النية السيئة للآخرين أنهم سيهجمون فيجب أن يدافعوا، والحروب الأهلية تنشب تحت ضغط هذا الشعور: علي قتله قبل أن يقتلني؟ أما إن قال كل واحد لن أقتل ولو مد يده بالقتل لانطفأت الحروب، ولكن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين.

وفكرة الدفاع عن النفس سوف نحاول أيضا تفكيكيها أثناء بحثنا عن مشكلة العنف واللاعنف في القرآن.

والحديث الذي يتحدث عن الدفاع عن النفس في وجه لص، هو غير الحديث الذي يتحدث في عدم الدفاع عن النفس تجاه الدولة، فالعمل الفردي الشخصي غير العمل الاجتماعي السياسي، وحينما شجع الحديث المؤمن ان يعرف ركوب الخيل والسباحة والرماية، وأن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، فكله يصب في خانة مختلفة عن التغيير الاجتماعي السياسي الذي نتحدث عنه، فأن يعترض شقي طريق أحدنا فنحن مخيرون بين حسن التصرف للتخلص منه بالتي هي أحسن، أو طلب الدولة للتدخل، فهذا عمل الدولة، في الحجز بين الناس وكف العدوان، كما هو الحال في مطافيء الدفاع المدني، التي تهرع إلى إطفاء الحرائق، وهذه هي مهمة الشرطة والجيش، لحجز المعتدين من المرضى النفسيين وأشباههم، وهو أمر حادث وواقع، ويبقى لمن تعرض لهذه المواقف الصعبة في ظل غياب الدولة أن يدافع عن نفسه فرديا بالطريقة التي يردع فيها الشقي عن العدوان، وحديثنا ليس هنا، والأخ لم يستوعب مقالتي وظن أن هذا مثل ذاك، والأمر ليس كذلك، وسوف نحاول استعراض فكرة العنف واللاعنف في الإطار القرآني، من أجل فهم هذه الأفكار متناسقة في حزمة واحدة، وإلا كذبنا على الله. فالدفاع عن النفس الفردي في مواجهات مع عيارين وأشقياء وزعران في مناسبات سرقة ولصوصية وتحرش واعتداء وما شابه يجب حلها عن طريق الدولة التي مهمتها هذه الأعمال، وإلا تحول المجتمع إلى غابة، فإن غابت الدولة قام الفرد بما يسد هذا الفراغ لحين حضور رجل الدولة. وحديثنا هو عن التغيير السياسي أن الدولة أو المجتمع لو أراد اعتقال أو تعذيب أو سجن فرد ما، قام ضد الدولة وعارض الوضع السياسي، فلا يلجأ إلى القوة ضد الدولة، بل يتحلى بالصبر وضبط النفس، أو الهجرة في الحالات التي لم تعد تطاق،  ويأس صاحبها من إمكانية التغيير في ظل وضع سياسي مشئوم، والقرآن حض على الهجرة في هذه الحالات، كما جاء في قصة أصحاب الكهف، الذين ضنوا بكلبهم أن يعيش في مجتمع وثني، وهذا الكلام ليس نكتة، ففي ليلة واحدة  أمر الحاكم بأمر الله الفاطمي بإعدام كل كلاب القاهرة لأنهم أزعجوه بنباحهم، فحصلت مذبحة قضت على ثلايين ألف كلب ويزيدون؟

أما ماعدا ذلك فطريقة التغيير الاجتماعية التي مارسها الأنبياء جاءت على نحو واضح في الاية من سورة الأنعام (الآية ):

"ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين" فهذه الطريقة، والاستمرار فيها، هي طريقة صناعة الحكم والمجتمع في الإسلام، الذي أرجو أن أوفق لتوضيحه، وكذلك صيانته حين الانحراف، فلا تحل المشكلات بالدم والسيف كما حصل في التاريخ الإسلامي وما زال.

ولب المشكلة هنا أن من غير الإوضاع بالسيف والقوة المسلحة ونجح في ذلك ارتهن للقوة فأزال الطاغوت ليجلس محله فلا تزداد الأمور إلى مسخا وخسفا.

وهناك طرق ثورية في التغيير، كما أن الديموقراطيات الحديثة ترى أن الثورة المسلحة وقتل الظالم شيء مشروع، كما حدث مع الثورة البلشفية والفرنسية والأمريكية، أما طرق الأنبياء فمختلفة.

وهناك نقطة أشكلت على الأخ هي موضوع اجتياح الشعوب وكيف تدافع عن نفسها وهي نقطة قوية مما جاء في مقالته.

قال:" و حضارة الإنكا في أمريكا الجنوبية كانت حضارة راقية مسالمة ذات مدن ضخمة و أنظمة ري متطورة، و لم تُبادئ الغزاة الإسبان بأذى يذكر، بل إنها حاولت مد أيدي التواصل إليهم مراراً، فكيف صمد اللا عنف أمام همجية العنصرية الأوروبية؟ لقد دمّر الأوروبيون حضارة الإنكا بالكامل، و قتلوا  آخر ملوكهم بعد أن أعطاهم من الذهب ما لم يتخيلوا وجوده في أزهى أحلامهم، و انقرض شعب الإنكا و بادت لغته و دمر تراثه، و لم يبق منهم اليوم إلا شراذم مضطهدة معزولة. و قد انتشر لدى الحركات العنصرية الأوروبية أن مسالمة هذه الشعوب المقهورة و استكانتها إلى مصيرها ما هي إلا لاقتناعها بتفوق الجنس الأبيض، فكان اللا عنف دعوة مفتوحة لمزيدٍ من العنف و لمزيدٍ من الإجرام من قبل الطرف المعتدي"

وهذه المعلومة التي جاء بها الأخ تعرج قليلا؛ يخيل للجاهل من سحره أنها تسعى وهي حبال؟ فلا حضارة الانكا مدت يد المسالمة، ولم تكن تعيش فيما بينها بسلام، ولم تمارس اللاعنف في وجه العصابات الأسبانية، وهنا الخطأ مضاعف ثلاث مرات.

وأنا تتبعت هذه الفكرة وفكرت فيها مليا. ويجب استيعابها ضمن بانوراما جديدة للفهم الإنساني. وحضاة الازتيك والانكا كانت دموية جدا، ولم يكن لمائة رجل أن يدمروا حضارة يعد أهلها بالملايين، بل كانت تمارس القتل على نحو جنوني، ومما يذكر أن حكام الازتيك كانوا يذبحون في أيام العيد لمدة بضعة أيام ثلاثين ألفا من خيرة الشباب من الشعوب المجاورة، وهو أمر تحققت منه قناة الديسكفري، وكورتيس تغلب عليهم من الانشقاق الداخلي. وتحريض بقية الشعوب المظلومة المضطهدة ضدهم، فلما استطاع جمع كلمتهم قضت بسهولة على حضارة الازتيك وينطبق نفس الكلام على بيزارو وحضارة الأنكا وملكهم هواتا هوالبا الذي خنق وشنق. وهو نفس الأمر الذي فعله الاسكندر مع مملكة الفرس، وينطبق على الفتح الإسلامي لمصر الذي تم على يد أربعة آلاف جندي؟

ونحن هنا نناقش موضوعا مختلفا وإذا كان لابد أن يقحم في موضوع الدفاع عن النفس، فهذا شيء مختلف عن الجهاد، والجهاد غير القتال فيجب التفريق بين المصطلحات، كما يجب التفريق بين الجهاد والخروج الذي مارسة الخوارج، وهو موضوع يجب التعرض له أيضاً، وهناك لبس وغموض في كثير من المفاهيم.

وأنا في هذه المقدمة أحاول ضغط الأفكار ما امكن مثل كبسولة دواء.

الجهاد غير القتال. والقتال قد يكون من الجهاد وقد يكون من عمل الشيطان. إن كيد الشيطان كان ضعيفا. فحين ينضبط القتال كطاقة لهدف قد يخدم موضوع الجهاد. وهنا يشبه الجهاد عمل إطفائيات الحريق على المستوى العالمي في صراع الدول بين بعضها البعض، فهذا هو الجهاد، وله شروطه، فهو ليس أداة بيد فرد أو حزب أو جماعة بل يجب ممارسته بيد دولة وصلت إلى الحكم برضا الناس، ويسخر ضد الظلم، أي أنه "دعوة لإقامة حلف عالمي لرفع الظلم عن الناس أينما كانوا ومهما دانوا" وهو مايكرره القرآن عن (رفع الفتنة عن الناس) كما هو في حكم أنظمة المخابرات في الأنظمة الثورية العربية، ومن هذا الجانب فهذه الأنظمة المتعفنة يجب الجهاد ضدها من قوى عادلة ولو كانت غير مسلمة، ولو أن أمريكا فعلت نفس الشيء في كل العالم لدخل الناس في دينها أفواجاً، ولكنها تنصر إسرائيل، وتدعم الديكتاتوريين في كل مكان، وتريد التوسع والهمينة، وتلعب دور فرعون المستكبر في العالم، الذي طغى في البلاد فأكثر فيها الفساد، وهو الذي اختلط على المدعو أورهان، حينما استشهد بالآية من حيث لم يستوعب معناها، أن رفع الفتنة عن الناس تعني فتنتهم. وهو معنى اختلط عليه تماما. فالقرآن قال قاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين لله، وليس قاتلوا الناس حتى يكونوا مسلمين على الطريقة العربية الأعرابية؟ أي رفع الإكراه عن الناس حتى يكونوا أحرارا في اعتناق ما يشاؤون، وهذا المفهوم في القرن السابع للميلاد كان تقدمياً جداً، ولم يتعرفه البشرية إلا في عصور التنوير.

إن القرآن ينطلق من مبدأ: (لا إكراه في الدين) دخولا وخروجا، وهذا يعني أنه لايوجد قتل للمرتد كما نص عليه فقهاء العصر المملوكي. ويمكن للإنسان أن يخرج من الدين ثلاث مرات بدون أن تخرج روحه مرة واحدة. كما جاء في سورة النساء.

إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا" ولكن لم يقل أخرجوا أرواحهم بحد السيف، وهو ما فات على أورهان المبرمج على عداء الإسلامي أيديولوجياً، وعلى عدم الاستفادة من القرآن. ولا يعرف القرآن. ولم يطلع على القرآن.

 بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله؟؟.

ومشكلة الحداثيين والتحديثيين وأضرابهم أنهم لايعرفون الثقافة الإسلامية ويحاربونها عن جهل وسطحية، ومعهم الحق في بعض الزوايا، ولكن مثلهم مثل من يريد استئصال ثألول من الأنف بالمنشار أو المقص بدون تخدير.

وهذا ينطبق على الأصوليين الذين لم يستوعبوا صدمة المعاصرة فهم يستقبلون رياح العولمة الباردة بدون دثار وحطب ونار. 

وكما ذكرت النموذج الأول (أورهان) الذي رأى في القرآن مصدر كل عنف وقتل، والنموذج الثاني (م . ص) من رأى أن اللاعنف لاينفع في المواجهات، وأن ابن آدم المهدد بالقتل لو انتبه لأخيه لقتله. وهو خطأ فادح في الفهم، وهي وصفة لا قرآنية جدا، فحين يتصرف الاثنان بهذه الطريقة فلن يحدث فرقا كبيرا، فمن سبق كان القاتل والمسبوق كان المقتول. وهذا يختلف جدا عن الرجل الذي لم يدافع عن نفسه، فمن دافع عن نفسه فقتل كان مجرما مثل القاتل الذي هاجم، فكلاهما نفسيا قاتل بفرق السرعة والسبق والفنية، وكلاهما من نفس العينة الإجرامية، وأهمية عدم الدفاع عن النفس أنها تحيل القاتل إلى مجرم، وأما حركة الدفاع والهجوم فتقلب القاتل إلى بطل منتصر، فهاتان آليتان نفسيتان مختلفتان جدا. ومنه جاء تعبير القرآن في لفظين في الآيات الست من سورة المائدة (الخاسرين) و(النادمين) "فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين، فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه، قال ياويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين؟ أي أن القاتل لم يكن بطلا بل مهزوما خاسئا مدحورا، ولم يتحرر من ضغط شعور الجريمة حتى تاب، وهو يعني أن من مات لم يمت بل نشر مذهبه، حين اعتنقه القاتل بعد غياب صاحبه، وهو معنى الخلود في الشهادة. وهذا قد يحدث، وكلنا سنموت يوما، والعبرة في ثبات وديمومة الأفكار. وإلا كان الكون باطلا بني عبثا، وما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون.

ونأتي الأن إلى النموذج الثالث من التفكير السائد في الساحة والتي جاءتني من الأخ (أحمد الخطيب)  من فلسطين، الذي يقف في الزاوية المقابلة للتفكيرين السابقين، فهو يرى أن " العدو في الإسلام هو الكفر، والأعداء هم الكفار، فالكفر هو الأمارة الدالة على وجود الأعداء، أي هو السبب الشرعي.  فنحن نعادي الناس بسبب كفرهم، والأصل في المعاداة بيننا وبين كل البشر هو وجود الكفر، فإذا وجد الكفر وجد العداء، وإذا عدم الكفر عدم العداء، لذلك كان الأصل في المعاداة هو وجود الكفر حقيقة وكان الكفر سبب في العداء" ليخلص بعدها فيقيس على هذا موالاة الكفار الأعداء:

"إذ لا يجوز لمسلم أن ينصر الكافر أو يعاونه أو يشاوره أو يحبه أو ينصحه أو يصادقه أو يركن إليه أو يخضع له أو يستسلم لسلطانه برضاه، فإن فعل ذلك كان موالياً له وينطبق عليه حكم الموالاة إلا في حالة التقية لقوله تعالى"

وبعد هذه المقدمة والشرح يصل إلى وصفة الخلاص أن العلاج الشافي:

" لمشاكل الأمة ومصائبها هو سهل وبسيط، ويتمثل في منع موالاة الحكام للكفار. ومنع هذه المولاة لا يتحقق فعلياً إلا بإبعاد هؤلاء الحكام عن السلطة، والإطاحة بهم، وتنصيب خليفة واحد للمسلمين مكانهم يوالي الله ورسوله وجماعة المسلمين"

وهذه الأحجار الثلاثة التي بناها الرجل غير مستقرة إذا سحب منها الحجر الأول سقط البناء برمته وتهاوى فكان لسقوطه دوي عظيم.

فالقرآن لا يربط بين (الكفر) و(العداوة)، بل بين العداوة والظلم، وفي السورة التي يذكر فيها إبراهيم عليه السلام التي يخاطب فيها الكافرين: كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده" ينتقل بعدها مباشرة ليقول: "عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة"؛ فيكسر بكلمة واحدة كل مقولة الأخ الخطيب من فلسطين فحجته داحضة. وليس هناك من علاقة بين العداء والكفر، أي يمكن أن يكون بيننا وبين الكافرين مودة، لينتقل بعدها من سورة الممتحنة وهي سورة تناولت موضوع الولاء ليقرر أن سبب العداوة غير شخصي، ولا علاقة له بكفر وإيمان، كما يقرر الخطيب بل ممارسة الإكراه. فينص على أن الكافرين إذا لم "يقاتلوكم في الدين ويخرجوكم من دياركم" أن تبروهم وتقسطوا إليهم، وأظنها مفاجئة غير سارة لمفاهيم الخطيب التي وقع في قبضتها بدون فكاك. وهذه هي المشكلة أننا نقرأ القرآن بعيون الموتى من ثقافة ميتة، وبيننا وبين الفهم سدودا من أقوال المفسرين. 

بل ويقول القرآن في مكان آخر من سورة آل عمران:"ها أنتم هؤلاء تحبونهم ولا يحبونكم" فيقرر أن المسلمين يحبون الكافرين، في الوقت الذي يطلب المسيح من أتباعه أن يحبوا أعداءهم ويباركوا لاعنيهم، فسبق صحابة رسول الله ص حواريي المسيح بدرجة، وهو يذكر بالفرق بين دعاء موسى أن يشرح الله صدره ، في الوقت الذي انشرح صدر النبي فقال ألم نشرح لك صدرك.

وهناك اختلاط آخر يقع فيه من يتأمل السيرة فكيف نفهم الغزوات تماما مثل مشكلة الآيات التي تحض على القتل والقتال، وهذا يذكرني بالقصة التي روتها لي ابنتي عن (نورمان فينكلشتاين) وأمه التي خسرت زوجها وكل عائلتها في معسكرات الاعتقال في (آوسشفيتس Ausschwitz) أنها لما طلبت شاهدة على المجرمين النازيين طلبت من ابنها أن يفعل بهم كل شيء، لأنهم رأوا الموت على مدار الساعة في معسكرات الاعتقال، قالت له ابنتي الموجودة في كندا: سوف ينشرح صدر والدتك وربما اسلمت أنت حينما تقرأ الآية التي تقول "قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم" وأنا أعرف هذا الشعور من الجلادين في الأفرع الأمنية الذين كسروا أسناني بضرب البوكس وحجزي في إفرادية لا أتمناها لحافظ الأسد الذي وضع الشعب السوري في براد لمدة أربعين سنة؟؟ أو حفلات التعذيب في (كركون) الشيخ حسن في حي الميدان في دمشق حيث كان الجلاد يوسف طحطوح الديري يستطيب القدوم مع ساعات السحر للتمتع بتعذيب المعتقلين؟ رأيته بعيني وحقق معي شخصيا وأسأل الله أن لا أجتمع به في دينا ولا آخرة.

أقول كما فرقنا بين الدفاع الشخصي ضد شقي لص وبين عدم الدفاع عن النفس أمام النظام السياسي أثناء النضال المدني، كذلك الحال وجب التفريق بين القتال في مرحلة اللادولة ومرحلة الدولة، بسبب بسيط أن وظيفة العنف هي وظيفة الدولة، ولو تابع المسيح ما فعل محمد ص فبنى دولة لفعل نفس الشيء من رفع الظلم عن المظلومين والمضطهدين كما جاء في فلم دموع الشمس (Tears of the Sun)، وهذا الأمر يختلط على الناس فيظنون أن المسيح سلامي ومحمد حربي، والصحيح أن محمد أكمل عمله، فاعتبره مايكل هاردت الشخصية الأولى من مائة شخصية غيرت وجه التاريخ، والمسيح لم يكمل مهمته فخطفته الأحداث، مما أوقع المسيحيين في حيرة؛ فذهبوا مذاهب في تأويل الاختفاء كما فعل الشيعة مع الإمام الاثني عشر الذي اختفى في السرداب وأنه سيعود في آخر الزمن فيملأ الأرض عدلا بعد أن امتلأت جورا، وهو مذهب استخدمه كثير من السياسيين الدهاة لإقناع العامة بخروج المهدي ليقضي على الدجال، بمن فيهم من اقتحم الكعبة في مطلع القرن الخامش عشر الهجري في أول أيامه، أما المسيحيون فقالوا بتأليه المسيح، وهو بشر ممن خلق لم يكمل عمله،  وبشّر وتحدث أن هناك من سيكمل عمله وهو غير أهل أن يحمل حذاءه؟

الدولة بيدها العنف وتحتكر العنف، والأنبياء لهم طريقتهم في بناء دولتهم الخاصة، فلا يغيرون الطغيان بطغيان، بل الطاغوت بالرشد، ولكن بني أمية المجرمين رجعوا فقلبوا الآية، وحولوا دولة الرشد إلى دولة طاغوت، إن مات هرقل جاء هرقل، فجعلوها هرقلية تلبس عباءة النبي، مثل مسجد الضرار، وهكذا توقفت مسيرة الإسلام قبل أن يبدأ رحلته، وبدأت الفتوحات الاستعمارية زورا باسم الإسلام، والإسلام لاينتشر بالسيف بسبب بسيط، هو أن العقل لايؤمن بالإكراه، ولا يعتبر الإيمان إيمانا ولا الكفر كفرا بالإكراه.

ومع كل هذا الإعلان من الأنبياء أن العنف لايحل مشكلة انطلاقاً من الخلفية الإخلاقية لفكرة اللاعنف فلم تتوضح أهمية هذه الأفكار والبرهنة عليها إلا صباح يوم 16 يوليو بانفجار تجربة أول سلاح نووي. حين ألغت القوة القوة بعد أن وضع البشر يديهم على سقف القوة. 

العنف يعني تعطيل العقل. والعنف يعني لا ديموقراطية. والعنف يعني الإكراه. والعنف لا يحل مشاكل بل يعقدها. والعنف قد يجبر الإنسان ولكنه يأخذ الطاعة مع الكراهية، والمجتمعات نوعان: من دار حول الفكرة ومن عبد القوة، والمجتمعات العربية تعبد القوة فتخر لها الجباه ساجدينا. والغرب حل مشكلة الطغيان السياسي فأصبح فيه نقل السلطة سلميا، أما عندنا فمنذ جيل الصحابة الذين ضاع الرشد على أيديهم لم نعرف الرشد حتى اليوم؟

وفي علم النفس حينما تكون القوة مركزية فهي تولد تلقائيا الإكراه، وكما يقول الفوضويون(Anarchist)، وهي تسمية خاطئة وترجمة غير دقيقة، والأفضل أن تسمى المجموعات التي لاتؤمن بالدولة، فهم يرون أن الدولة الحالية تمثل الإكراه، وكل إكراه خطأ، وقليل من السلطة يعني القليل من الفساد، والسلطة المطلقة تعني الفساد مطلقاً، وحين تستخدم القوة للإكراه يمكن أخذ الطاعة من الناس كما في دول المخابرات الثورية في العالم العربي، ولكنها طاعة ممزوجة بالخوف والكره، وهكذا فالإكراه ولد الكراهية، وهي تقود تلقائيا إلى محاولة إعادة الاعتبار للذات المسحوقة فتتلمظ إلى القوة، وهكذا فالقوة دخلت في حلقة معيبة معكوسة متواصلة مترابطة المفاصل على النحو التالي: قوة ـ إكراه ـ خوف ـ طاعة ـ كراهية ـ قوة ـ إكراه وهكذا؟؟

وعبادة القوة يقود تلقائيا إلى عدم إمكانية ولادة مجتمع ديموقراطي يؤمن بتبادل السلطة السلمي، وهي مشكلة الثقافة العربية الحالية.

والآن إلى الدليل العلمي وهو بحث يجب أن يوسع أيضا ولكن خلاصته هي أن القوة عبر التاريخ كانت في رحلة تضخيم بدون توقف، فمذهب ابن آدم الأول الذي بدأ رحلة القتل بالحجر تطور ليصل في النهاية إلى سقف القوة، حيث ولد على الأرض القنبلة الهيدرجينية المحمولة على صاروخ وترفع درجة الحرارة كما يحدث في باطن الشمس مائة مليون درجة سنتغراد. وهذا التطور المرعب قاد إلى مفارقة عجيبة هي أنه لم يعد بالإمكان حل المشاكل بالقوة لأنها نهاية اللاعبين فلم يعد هناك منتصر في الحرب، وهذا التطور في القوة كان عجيبا غريبا أدى إلى لجم القوة، فقد أنهت القوة القوة على غير ميعاد. وبذلك تحقق حلم الأنبياء النظري حاليا، ولم تنفع كل المواعظ والكتب المقدسة في البرهنة على هذه الحقيقة، كما في نظرية الانفجار العظيم، فقد تعب الفلاسفة في تفسير الكون حتى جاءت نظرية الانفجار العظيم وأعطت الجواب أن العالم بدأ قبل 15 مليار سنة، وهذا الكلام هو الشعار الذي أرفعه بوابة العلم ـ السلم. ومن الغريب أن يأتي السلم من رحم القوة، ولكن هكذا يتطور التاريخ وما ينفع الناس يمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال.

وبذلك انتهت الحرب من التاريخ، وماتت مؤسسة الحرب، ولم تعد الحرب تشن إلا بين المتخلفين أو لتأديب المتخلفين. وفي حرب العراق وإيران التي امتدت أكثر من الحرب العالمية الثانية كان يمد الطرفين ثلاثين دولة، وأدرك الجميع أن الحرب يمكن أن تبدأها ولكن نهايتها ليست في يدك، ومن بدأ الحرب فقد باع نفسه لعالم الكبار،  الذين يملكون التقنيات ولا يستعملونها فيما بينهم، وهو أمر عجيب يحدث في العالم،  ويشي بعمق الأزمة الأخلاقية في العالم التي تمارسها االدول الصناعية، ولم تعد الحرب تقع بين دول الشمال الأوربي بعد أن خاضوا وجربوا ضراوة كل أنواع الحروب الدينية والقومية والعالمية، وحاول بونابرت توحيد القارة بالمدفعية، وهتلر بالبانزر، ولكن لم تتوحد إلا بشعار السواء، بدون ألمانيا فوق الجميع بل ألمانيا مثل الجميع، ومات نابليون في جزيرة تذكر بجهنم مسموما بالزرنيخ، ومات هتلر منتحرا مضاعفا بالرصاص والسيانيد مع عشيقته ايفا براون في قبو الاستشارية في برلين.

وفي ختام هذه المقدمة سوف أحاول ضغط الأفكار ملخصة مرة أخرى على شكل كبسولات صغير: فاٍلاسلام يبني المجتمع ويصنع الدولة بطريقة سلمية بدون عنف، فهذه طريقة الأنبياء، وهي تختلف عن طريق الثورات الفرنسية أو البلشفية أو الأمريكية، وبعد قيام المجتع والدولة يصبح بإمكان الدولة وضع يدها على آلة العنف فتمارس وظيفتها الأساسية في توفير الأمن للأفراد بدون طغيان داخلي، ويكون حجم العنف من الشرطة والأسلحة والمؤسسات مثل الإطفائية في المدينة، فليس الجهاد بيد فرد أو تنظيم، كما أن الجهاد بمعنى القتال المسلح ليس لنشر الدعوة بل لرفع الظلم عن البشر، ومن يمارس الجهاد هي دولة راشدية وصلت إلى الحكم برضا الناس، وهذا يعني أن الجهاد بمعنى القتال المسلح لرفع الظلم عن الناس إذا سلط في مكان فيجب أن يكون ضد معظم الدول الإسلامية.

 وليست وظيفة الدولة اضطهاد الناس بالمخابرات، وجلد ظهور الناس، وسلب أموالهم، وبناء مجتمع طبقي فرعوني يجعل الناس شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، أي بناء المجتمع المحرر من القوة داخليا، باستيلاد وخلق الإنسان الحر، فإذا حصل هذا فإن صيانة هذا النوع من المجتمع والدولة تتم بنفس الطريقة السلمية، كما فعل أبو ذر الغفاري في الوقت الذي رفع الكل السلاح في وجه الانحراف الأموي بمن فيهم الحسين كرم الله وجهه، فكان عليه أن يفعل كما فعل أبو ذر، ولايدخل المجتمع أزمة لم تحل حتى اليوم، فما زال الشيعة يضربون أنفسهم كل سنة بالسواطير والسلاسل ندبا وحزنا على الحسين، بحيث أنهم حولوا أنفسهم إلى طائفة حسينية، أكثر منها محمدية؟ وهو كلام ثقيل على الشيعة، ولكن يجب أن يقال، ويمكن أن نسجل للخميني من الشيعة أنه قام بأعظم ثورة سليمة ضد الظلم، ليس على طريق الحسين بالسلاح، بل على طريقة الصحابة، فكان المتظاهرون يضعون الورد في فوهات بنادق الجنود، وانتصر الدم على السيف، وهي ليست طريقة حزب الله في لبنان التي اعتمدت القوة، فهي قد نجحت في طرد اليهود من جنوب لبنان بالتعاون مع آخرين، ولكن ليس بإمكانها ترسيخ الديموقراطية، ووجدناها في خندق واحد مع الطاغوت السوري، حتى منَّ الله على اللبنانيين أن تخلصوا من الجاندراما والمخابرات والذل.

وبعد قيام الدولة والمجتمع سلميا وصيانته سليما فإن هذا المجتمع المحرر من القوة، يحاول وضع يده في يد أي قوة عالمية عادلة، من أجل رفع الظلم عن الإنسان، أينما كان ومهما دان، ونتائج هذا أننا قد نضع ايدينا مع كافر عادل ضد مسلم ظالم.

وتبقى زاوية مظلمة لا بد من شرحها، فمثل المقاومة الفلسطينية التي لم تمش الخطوات الطبيعية في إنشاء المجتمع والدولة وولادة الإنسان المحرر من القوة، فهذه القوة تصادم قوة أخرى، وهو صراع يحدث بين قوى كثيرة في العالم، مثل صراع التماسيح والسباع في الغابة، وهذا لا علاقة له بمفهوم الجهاد الذي نتحدث عنه، ولا يوجد اليوم مجتمع إسلامي محرر من علاقات القوة، وتخلص من مرض المستكبرين والمستضعفين فيجب الانتباه لهذا.

 ونقطة أخرى وهي أن هذا المجتمع المحرر من القوة على فرض تحققه، فإنه يدافع عن نفسه بقوة السلاح إذا لزم الأمر في العدوان عليه، وهو ما اختلط على الشيخ القرضاوي في تعليقه على جودت سعيد، فلا يوجد جهاد طلب ودفع، بل الجهاد هو بناء إطفائية حريق عالمية لنجدة المضطهدين في الأرض من أي دين وملة، وهو المشروع الذي اشتغل عليه إيمانويل كانت في كتابه (نحو السلام الدائم Zum ewigen Frieden) حيث تخيل ما يحدث اليوم من قيام جمعية الأمم المتحدة، ولولا مجلس الأمن الإجرامي بحق الفيتو الذي فيه، ولو أن مجلس الجمعية يتحول إلى برلمان دولي عنده القدرة على تنفيذ القرارات، إذا لتحققت فكرة الجهاد، وتشكلت الدولة العالمية التي تفض النزاعات، وتوفر الأمن للجنس البشري، وتضع الحرب أوزارها كما تنبأ القرآن، كما فعلت الدولة للأفراد فلم يبق نزاعات، وإن حصلت فتتدخل الدولة وتفضها بالقوة، فهذا هو الجهاد الداخلي وذلك هو الجهاد العالمي.

فهذه هي مجموع الأفكار باختصار، ويجب تنزيل الآيات منجمة على هذا القانون الداخلي للقرآن. وبذلك تفهم آيات كفوا أيديكم، وآيات قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم، وآية ولا تعتدوا إنه لايحب المعتدين، وآية لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين أن تبروهو وتقسطوا إليهم، وبهذه الصورة ينكشف الغطاء عن الوجه الإنساني للإسلام، ويفهم على شكل منطقي، وليس عدوانا من النوع الخطير الذي يطرحه القرضاوي وغيره، من جهاد الطلب وشن الحروب في الأرض. وهذا الكلام منطقي ومتماسك ومتوازن ويمكن التحدث به في أي مجلس دولي والدعوة له، كما فعل الفيلسوف الألماني كانط بمشروعه للسلام العالمي، وأهمية هذا الطرح أن العالم يظن أو يحاول فهم أن الإسلام دين حرب وضرب واغتيال وقطع للرؤوس، كما أن الكثير من الشباب المغفل والجاهل تنطلي عليه أفكار المتطرفين فيموت في جبهات يظن أنه تدخله الجنة فيدخل النار التي وقودها الناس والحجارة.

وسوف أحاول الآن بعد استعراض هذه الأفكار في الصفحات القادمة تناولها بشكل تفصيلي. وقد تأتي بعض الأفكار مكررة ولكن علينا تحملها لأهميتها حتى ترسخ في الوجدان. 

 

كيف نشأ العنف في التاريخ الانساني ؟

(تفكيك اجتماعي وانثروبولوجي لعنف الدولة)

 

أحدثت النتائج التي خرج بها علم النفس من المدرسة الأمريكية في الستينات من هذا القرن ذعراً بين المطلعين عن أثر الانصياع للأوامر في إمكانية ممارسة التعذيب ضد الانسان وعرضت السينما الفرنسية التجربة في فيلم اغتيال رئيس. حيث وضع رجلان في التجربة يمتحن الأول آخر مربوطاً  على كرسي ومتصلا بأسلاك كهربية فإذا فشل في الإجابة على السؤال عاقبه الممتحِن بلسعة كهربية قابلة للزيادة مع تكرار الخطأ. لقد أظهرت التجربة أمرين في غاية الخطورة: إمكانية ان يتحول الانسان السائل الى وحش تعذيب حقيقي يرفع الفولتاج الى 450 فولتا والثاني أن تكرار التجربة علىشرائح شتى من الناس أثبت أن 60% منهم قابلين للسقوط في هذه الوهدة من الانحطاط الانساني. والواقع يروي كيف أن كل جيوش العالم مختزلة بإرادة الأفراد. وأن الجندي عليه أن ينفذ أولاً قبل الاعتراض  في استباحة أي شيء في مخالفة جوهرية لتعاليم الأنبياء (لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق). إن الجندي عنده استعداد أن يفعل كل محرم وآثم وإجرامي تحت مبرر (هكذا جاءت الأوامر). وفي الحرب العالمية الثانية كرَّر عتاة الجستابو من النظام النازي نفس المسوغ في محاكمات (نورمبرغ) لمجرمي الحرب: (كانت أوامر علينا تنفيذها). في الواقع لايبقى جيش من جيوش العالم الحديثة متماسكاً لو طبق تعاليم الأنبياء لأن سر الانضباط والتماسك في البنى العسكرية هي في إلغاء (الإرادة الفردية) و (الاستقلالية) و(التفكير) و (الاعتراض). إن بنية الفرقة العسكرية تتلاشى عندما (يفكر) الأفراد على نحو (مستقل) أو يعلنوا (عدم الطاعة) في الحملات العسكرية اللاأخلاقية. إن الانضباط العسكري يقوم على تحويل المجموعة من البشر الى كتلة لحمية منضدة جاهزة للضرب كالمطرقة في أي اتجاه وضد أي كائن. ويعتبر (روجيه غارودي) في كتابه ( نحو رقي المرأة) أن هذا الانحراف في مسيرة البشرية كان خلف بناء المؤسسات العسكرية (الذكورية) ودفع المرأة الى شريحة دونية مستضعفة طالما كان الحكم للعضلات والسيف وليس الفهم والرحمة، بل وبناء كل نمط الحياة على شكل ثكنات و(هيراركي) مثل الجيش  يقوم على التراتبية وتلقي الأوامر التي لامرد لها ولا اعتراض. ومهمة الأنبياء كانت في تحرير إرادة الانسان من (علاقات القوة) وهذا هو لب التوحيد. وهذا يفتح عيوننا على بنية الدولة وعمودها الفقري من الآلة العسكرية. إن (علم النفس الاجتماعي) والانثروبولوجيا (علم الانسان) حاولت فهم عدة ظواهر انسانية مثل (الدولة) و (المجتمع) و( الحضارة) وكيف ولدت ومتى حدث هذا في التاريخ؟ إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الحياة بدأت قبل 3,8 مليار سنة فإن سفر الوجود يظهر لنا الانسان في الصفحة الأخيرة من كتاب مكون من ألف صفحة. كما أظهرت الكشوفات الأخيرة في الحبشة على يد (تيم وايت) عن أقدم انسان أخذ اسم (ارديبيثيكوس راميدوس  ARDIPITHICUS RAMIDUS) قبل 4,6 مليون سنة. وإذا كانت رحلة الانسان على ظهر الكوكب قد بدأت قبل خمسة ملايين من السنين فإن  الحضارة بدورها لاتظهر الا في الصفحة الأخيرة من مجلد ضخم مكون من ألف صفحة. فقد بزغت أولى الحضارت قبل ستة آلاف سنة في جنوب العراق كما ذهب الى ذلك المؤرخ (توينبي) في كتابه (الانسانية من أين؟ والى أين؟). أما الكتابة فقد اخترعت قبل خمسة آلاف سنة وبدأ (جوتنبرغ) في استخدام مطبعته قبل 500 سنة. وسخّر الناس البخار قبل 200 سنة والكهرباء قبل 120 سنة أما كل التقنيات الالكترونية الحديثة فعمرها لايتجاوز عقوداً قليلة. أما ثورة الاتصالات والمعلومات فعمرها عشر سنوات. وينفعنا هذا التسلسل للاطلال على بانوراما من التطور الانساني واكتشاف مكان (الدولة) ضمن تعاقب الأحداث وأن عمرها قصير فهي مؤسسة سياسية ولدت مع مجتمع المدينة وتقسيم العمل. إن اختراع (الدولة) كان تتويجاً لولادة المجتمع الانساني بعد بزوغ مالايقل عن ثلاثين حضارة من رحم 600 مجتمع بدائي. ويرى (ابن خلدون) أن المجتمع الانساني يشكل (ضرورة) انطلاقاً من حجتين (تأمين الغذاء) و(نظام الحماية) وتحت المبرر الثاني نشأت مؤسسة العنف بكل أذرعتها من الجيش والبوليس والاستخبارات. كذلك يفيدنا علم (الانثروبولوجيا) كما جاء في كتاب (بنو الانسان) لمؤلفه (بيتر فارب) أن الثورة الزراعية حررت الانسان من الجوع للمرة الأولى في تاريخه وكان ذلك قبل تسعة آلاف سنة فمع اكتشاف المرأة للشجرة ونظام الزراعة كما أشار الى ذلك (ديورانت) في (قصة الحضارة) حصلت وفرة في الغذاء وبدأت أعداد البشر تتزايد والمدن تعمر والأنظمة السياسية في الولادة. ومع ولادة النظام السياسي ولد (عنف الدولة). فبقدر ماكان أشباع حاجات الانسان (الاقتصادية) من السلع والخدمات يتم بطرق سلمية فإن الفعالية السياسية هي على النقيض من ذلك وتمارس بالضغط على الآخرين وبتعبير عالم الاجتماع (ماكس فيبر) في كتابه (الاقتصاد والمجتمع) في وصفه للدولة أنها:( تحتكر العنف الجسدي الشرعي). ومع احتكار الدولة (آلة العنف) ظهرت (القوانين) التي تنظم علاقات الأفراد. يرى (بيير فيو): (أن الاضاءة التي تسلطها العلوم الانسانية على العنف غنية بالعبر لإن العنف ليس حادثا عابرا بل هو وضع مألوف من التوترات والمجابهات ولإن العلاقات الانسانية تقوم على أرضية من الصراع والتناقضات وبذلك يكمن العنف كتهديد دائم قابل للانفجار دوما). إن مشكلة وجود الانسان في المجتمع كما يقول (لالند) في كتاب (المجتمع والعنف):( إن الانسان شخص مستقل يحدد بنفسه القوانين التي يخضع لها وأن المجتمع جماعة منظمة تطالب أعضاءها باحترام عدد معين من القواعد والاكراهات وإن وضع الانسان النزاعي يلخص بالتوازن غير المستقر والضروري لهذين المطلبين المتضاربين). أو كما يرى الفيلسوف (برتراند راسل) في كتابه (السلطان):(تجد المخلوقات البشرية أن من المجدي لها أن تعيش في جماعات ولكن رغباتها خلافا لرغبات النحل تظل فردية الى حد كبير ومن هنا تنشأ المتاعب في الحياة الاجتماعية والحاجة الماسة الى قيام حكومة إذ بدونها لاتستطيع الا نسبة صغيرة من السكان في البلاد المتحضرة أن تأمل في البقاء وأن يكون بقاؤها في وضع من العدم يدعو الى الإشفاق. ولكنها تنطوي  على عدم تكافؤ في السلطان إذ أن من يملكون أكثره يستخدمونه لتحقيق رغباتهم التي تتعارض مع رغبات المواطنين العاديين. وهكذا فإن الفوضى والطغيان يتشابهان في نتائجهما المدمرة ومن الضروري العثور على نوع من التفاهم على حل وسط إذا أريد للمخلوقات البشرية أن تنعم بالسعادة). ويذهب (علي الوردي) في موسوعته عن المجتمع العراقي تحت عنوان (الطبيعة البشرية) أن مشكلة الدولة أنها استطاعت باحتكار العنف أن تضمن (أمن الأفراد) ولكن المشكلة أن الأرض فيها العديد من الدول ولايوجد دولة عليا تضمن (أمن الدول) بين بعضها البعض كما فعلت الدولة بين الأفراد. وهذا هو سر اندلاع الحروب في التاريخ فالحرب هي ظاهرة اصطدام مربعات الدول أو مرافقة لتفكك الدول في الحروب الأهلية. إن الفرد لايستطيع ان يعيش بدون مجتمع بل لايصبح فردا انسانيا بدونه وحسب معادلات المفكر (مالك بن نبي) فالانسان يولد كقطعة لحم ومادة خام ولكن تشكيله الثقافي يرجع الى عمل المجتمع على الفرد. وهكذا فالانسان له معادلتان الأولى (بيولوجية) ولايختلف في هذا انسان عن آخر سواء في كندا أو راوندا  ولكن المجتمع هو الذي يصنع هذه المادة الخام فيصبح (كائنا اجتماعيا) ينطق ويحسن التصرف وهذا يفسر طول فترة الطفولة عند الانسان لأنه يختزل تجارب الانسانية خلال خمسة ملايين سنة مضغوطة في خمس سنوات. بكلمة مختصرة لولا المجتمع لانصبح بشرا أسوياء. ظهر هذا واضحاً في العديد من الاكتشافات الانثروبولوجية كما في صبي غابة أفيرون الوحشي عندما عثر على انسان في فرنسا عاش بين الحيوانات فلم يتطور قط  وكان أقرب الى الحيوان بما فيها عجزه عن النطق ولكن المصيبة أن كل محاولة تأهيله للحضارة فشلت في مؤشر جدا خطير أن سنوات الطفل الأولى حاسمة في قلبه الى انسان ورفعه من المملكة الحيوانية وإدخاله الحياة الاجتماعية. ومن هنا يظهر خطأ الفيسلوف (ابن طفيل) في قصة (حي بن يقظان) الذي وصل لوحده بدون أي اتصال اجتماعي على جزيرة منفردة الى كل المعارف العقلية. الدولة إذاً ضرورة ومصيبة وكل الأنظمة السياسية هي محاولات لإيجاد صياغة ناجحة بين فردية الانسان والانضباط الاجتماعي. ومع ولادة الدولة يولد أخطر مرضين على الاطلاق: الطغيان الداخلي وبرمجة الحروب. يقول (بيير فيو) عن أثر سقوط تفاحة السلطة في يد البعض وبرمجة العنف في المجتمع:(يغدق المسؤولون على أنفسهم أو يوزعوا على زبانيتهم من أصدقاء ومعاونين امتيازات لاتبررها أية خدمة أسديت للمجتمع. وعندما تصل هذه  المخالفات درجة من الخطورة والاستمرار والاتساع وتمس حقوق معظم الناس الأساسية لصالح قلة من أصحاب الامتيازات ينشأ وضع عنف. فحتى لو استسلمت  الجماهير أو عجزت وتابع النظام القائم استمراره فإن عناصر الانفجار باتت مجتمعة). إن العنف في الثورة الفرنسية انطلق من تصور مفهوم حماية المواطن الصالح كما عبر روبسبير:(أن الحكومة الثورية ملزمة بتوفير الحماية الوطنية للمواطنين الصالحين أما أعداء الشعب فليس لهم الا الموت). أما الماركسية فرأت في العنف وسيلة وحيدة لهدم البنى القديمة كما جاء في البيان الشيوعي وطبقه ستالين بموت عشرين مليون انسان. ونحن نعلم من سيرة الرسول ص أنه أقام النظام السياسي ولم يمت الا امرأة ورجل وكان ص يأمرهم بالصبر في عملية التحول الاجتماعي فهذا هو الفرق في كيفية بناء الدولة عند الانبياء وعند غيرهم. إن اهمية ولادة الانسان الذي لايؤمن بالعنف وسيلة لتغيير النظام السياسي أمران على غاية من الأهمية: التغيير السلمي الداخلي والمحافظة عليه من الانحراف بنفس الآلية السلمية في التصحيح.

إن مشكلة العنف هي في قلب البدايات كما عبر الشاعر الألماني (غوته):(في البدء كان الفعل)  في الوقت الذي ابتدأ الأنجيل بالكلمة (في البدء كان الكلمة) أي (اللوغوس) وأول كلمة نزلت في القرآن كانت(اقرأ). ومن هنا فإن أعظم الاضداد الانسانية في الوجود هي (اللوغوس) مقابل (العنف) وكما يقول (ب.ريكور):( إن القول والعنف هما أعظم الأضداد الانسانية في الوجود الانساني وإن تاكيد ذلك باستمرار هو الشرط الوحيد لاكتشاف العنف في مكمنه). إن لب دعوة الأنبياء في التاريخ كانت اجتماعية وعندما اكد القرآن على مفهوم (السنة) كان يريد منها ليس القانون الفيزيائي بل ( السنة النفسية الاجتماعية). ومشكلة مواجهة الدولة لتغيير طبيعة العنف فيها هي مزودجة أيضاً بالحد من طغيانها الداخلي بحيث تكون وظيفتها في تأمين جرعة مكافئة  من العنف لضمان (أمن الأفراد)كما تفعل مؤسسة الدفاع المدني لإطفاء الحرائق. كما أن البناء السلمي لها يجعلها لاتخوض حروب الجوار والتوسع أو تقبلها للاستعباد. إن دعوة اللاعنف تزداد ثباتا مع الأيام واليوم توقف الشمال عن خوض الحروب الا ضد السيكوباثيين من الطغاة. وهم مع كل امتلاكهم تقنيات الأسلحة لايعمدون الى حل مشاكلهم بالسلاح والحرب بل بالحوار أي إعادة تفعيل اللوغوس. وأمام هذا اللون من التحليل فإننا مدعوون لتشكيل هذا التيار في العالم العربي فلايمكن للديموقراطية أن تشرق شمسها عندنا بدون انقلاب في محاور دوران الفكر. وحتى يحصل هذا فلايشترط تغير كامل المجتمع بل يكفي أن تتغير شريحة 10% من الناس تؤمن وتمارس الكفاح السلمي .

 

خرافة التسلح

 

في الوقت الذي يدفع العرب مليارات الدولارات للتسلح من ميزانيات تئن تحت العجز ينقل لنا العلم معلومات مثيرة عن رحلة السلاح النووي على لسان أكبر خبير ، واسأل به خبيرا ، ولاينبئك مثل خبير ؟!

  في المقابلة التي أجرتها مجلة الشبيجل الألمانية العدد 32 \ 98 ) مع الجنرال ( لي بتلر LEE BUTLER  ) قائد القوة النووية الأمريكية الضاربة السابق وجهت له سؤالاً حرجاً : جنرال ( بتلر ) كان من المحتمل إذا شمرت الحرب عن ساقها ، أن تضغط باصبعك على الزر النووي ؛ فتنطلق صواريخ الترسانة النووية الأمريكية بكامل طاقتها تدمر الأرض عشرات المرات ؟؟

أجابهم وقد اعتدل في جلسته يعرِّف بنفسه : نعم بكل تأكيد ، ربما أعلم ذلك أكثر من أي انسان آخر على وجه البسيطة !! كل مستقبلي وعملي العسكري كان مرتبطاً بالسلاح النووي . كنت أُدَرِّس نظرية الردع النووي في أكاديمية القوى الجوية لطلابي . كنت أحلق بالقاذفة B52 تحمل في أحشاءها الرؤوس النووية . مؤخراً كنت أنا من يقود الزحف النووي العالمي . تحت قيادتي كامل القوة النووية الاستراتيجية الأمريكية  القاذفات والصواريخ  في البر والبحر . كنت اساهم في تطوير الرؤوس النووية وكنت أنا من يقرر كيفية استعمالها . أنا من جلس في مفاوضات التسلح أو مراقبة نزع التسلح . كنت أقدم خدماتي لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية كخبير في الاسئلة النووية . وأريد أن أفيدكم أن كل خطط الهجوم النووي في حالة القيامة النووية كانت تحمل توقيعي . كان الجنرال بتلر، المشرف على  خارطة للعالم تضم 12500 موقع يجب تدميرها نووياً يوم القيامة النووية ، تصل الى أي نقطة بمدى ثلث ساعة ، بخطأ لايتجاوز 15 متراً ، منها خرائط تفصيلية لمسح مدن بالكامل  تابع الجنرال قوله : كان تصرفنا كالسكران في يده مسدس يلعب الروليت الروسية ، وعندما ضغط الزناد للمرة العاشرة نطق ببلاهة انظروا مازلت على قيد الحياة ؟ أننا لم نكن نعي تماماً ماالذي سيحدث للكون في حال اندلاع الحريق النووي ؟! كانت رحلة طويلة صرفت أمريكا خلالها ستة ملايين مليون دولار طورت مايزيد عن سبعين ألف رأس نووي بـ 116 نموذج محمولاً على ظهر ( 65 ) نموذج قذف صاروخي ، بدءً من قنبلة هيروشيما ثم صعوداً ( MAXIMIZING ) بتطوير القنبلة الحرارية النووية ( الهيدرجينية HYDROGEN - BOMB ) بعيار فلكي من مستوى (ميجاطن ) حتى وصلت جرعة التفجير في الستينات الى مايزيد عن قوة هيرشيما بثلاثة آلاف مرة ، ثم تطوير الجيل الثالث ( قنبلة النيوترون NEUTRON-BOMB ) بتكثيف جرعة الاشعاع على حساب الضغط والحرارة فيقضى على البشر ويتم استلام المدن نظيفة ، الى رحلة تصغير الحجم ( MINIMIZING ) فأنتجت قنابل صغيرة من أجزاء من قنبلة هيروشيما يمكن حشوها بالمدفعية ، ومن كرات التفاح الصغيرة هذه حمل الحلفاء في حرب الخليج الأخيرة مايقرب من 600 رأس نووي صغير ، على ماروته مجلة ( الشيفرة CODE ) الألمانية . بجانب هذا مسحت خلال نصف قرن الماضي الجو الخارجي بتطوير نظام الساتلايت ( الذي تحول الى شبكة الدشوش الزاحفة على سطوح المنازل ) والبر من خلال تطوير نظام كمبيوتري ( الانترنيت) ، كما رسمت قيعان البحار بخرائط تفصيلية ، من غواصات نووية مستخفية بالليل ساربة بالنهار ، تحولت في النهاية الى خرائط ( الكارتو جرافي CARTOGRAPHY) يستفيد منها صيادو الحيتان والاخطبوط ، وتصمم بموجبها غواصات من نموذج (الطائر العميق الجيل الثاني DEEP-FLIGHT-II ) تتحمل الضغط الى عمق 11000 أحد عشر ألف متر ، ويكتشف في القاع عشرة آلاف مليار طن من مادة (الميتان المبللور CRISTALIZED METHAN ) بطاقة تكاد لاتعرف النفاد ، هذا عطاؤنا فامسك أو انفق بغير حساب ؟؟

من الطريف بالذكر أن الجنرال (بتلر) اعترف أنه لم يجلسوا ليحسبوا على وجه الدقة ماذا سيكون وضع العالم، عندما يزحف الرؤوساء من المخابيء النووية بعد الحريق الأعظم ، يخرجون من الأجداث الى سطح الأرض كأنهم جراد منتشر ، مهطعين رؤوسهم يقولون هذا يوم عسر ؟؟ كل مافعله الجنرال عندما سئل ماذا كتبت في اوراقك حيال قيامة قبل القيامة ؟ قال كانت حسابات رياضية فقط عن كمية التدمير التي سوف تنزل على رؤوس البشر والمنشآت الحيوية . لامعلومات عن انقلاب المناخ وكسوف الشمس الطويل !! لاخبر عن الحرائق التي تلتهم الغابات فتحيل الأرض الى جهنم تتلظى !! لااحصاءات عن الاشعاعات التي ستفتك ببني آدم ؟! لامخبر عن تقطيع كامل النسيج الحضاري ؟! لم تكن تقاريرنا تتضمن كلمة واحدة عن كل هذا ؟؟ أما السؤال عن الضحايا فكانوا يستعملون منطق الشيوعي ( جوزيف ستالين JOSEF STALIN ) مقتل انسان تراجيديا أما مقتل الملايين فهي مسألة احصائية ؟؟!!.

على الرغم من  تخصيص 35 مليار دولار في أمريكا لتطوير السلاح النووي هذا العام ، يقرر ( لي بتلر ) الجنرال السابق والقائد الأعلى للزحف النووي يوم النبأ العظيم ، ومدير الخطط الاستراتيجية النووية في البنتاجون ، في القيادة العامة في اوماها ( OMAHA ) في نبراسكا ( NEBRASKA ) بكلمات مختصرة الحقيقة التالية :

    (( إننا نضيع الفرصة الثمينة لتطوير قواعد جديدة للأمن في العالم حيث لايوجد مكان للسلاح النووي ؟؟‍‍!!   وهكذا كتب الرئيس ايزنهاور عام 1956

( يجب على الطرفين المهتمين بالحرب أن يجلسا في في يوم ما على طاولة المفاوضات وهما مقتنعان أن عصر التسلح قد انتهى وبأنه يتوجب على البشر الخضوع لهذ الحقيقة أو اختيار الموت) وكررها جورباتشوف في كتابه البريسترويكا (أن غواصة نووية واحدة تحمل في أحشاءها من الطاقة النارية مالم يستخدم في كل الحرب العالمية الثانية) وبموجبها طرح فكرتي (الجلاسنوست والموراتوريوم = الانفتاح والتخلي عن القوة من طرف واحد) وأكدها الرأس العلمي في مشروع مانهاتن (روبرت اوبنهايمر) أول من اخترع السلاح النووي (كأن العالم على صورة عقربين تحت ناقوس زجاجي واحد يمارسان الانتحار المزدوج) .

تحمل الحرب اليوم ستة مفارقات ففي الحرب العالمية الثانية قتل الحلفاء 200 ألف انسان في مدينة (درسدن) الألمانية واليوم تحرص على أن لايجرح مدني واحد في بلغراد تتفرج عليهم وهم يرقصون. والحرب كانت تفاجيء الخصم بالسلاح الاستراتيجي واليوم لايستخدم مع توفره في أعجب مفارقة تاريخية. وقنبلة النيوترون أخطر تطور للقوة كانت تريد استلام مدن نظيفة من الاناسي والناتو اليوم يهدم المنشآت ويحافظ على البشر. وكان  الخصم قديما يهدد غريمه بالزحف العرمرم ليأتينهم بجنود لاقبل لهم بها والناتو اليوم يصرح للخصم أنه لن يرسل الجنود. وكانت الحرب كما ذكر توينبي المؤرخ (تسلية) الملوك يتفرجون على الأقران يتذابحون واليوم أصبحت الحكومات شعبية تخشى من سخط الجماهير فلا ترسل ابناءها قرابين للسياسية الا الدول خارج احداثيات العصر. ويعتبر العسكري (فيكتور فيرنر) أن الحرب تحولت اليوم الى كائن خرافي مثل جوليفر في مدينة الأقزام بكائن شكله انساني ولكن طوله ووزنه بقدر ناطحة سحاب يدب في شوارع لاتتحمل وطء أقدامه لاتحدث الا في الاساطير . إنها تبدلات جذرية في صورة الحرب وتطور السلاح . 

الباكستانيون ثملون بالخمر النووي، والعرب يرون في هذا التطور ظهيراً لهم في صراعهم مع جالوت النووي الجديد في المنطقة (اسرائيل)، والمسلمون مستبشرون يهللون بولادة طفل نووي لهم. والعالم يعلن عن ولادة قنبلة نووية اسلامية؟    

السكر النووي خطير، والطفل الجديد قد يكون مشوها، ولم يكن للقنابل دين في يوم من الأيام؟ ومايحل مشكلة العرب اليوم أمام (جالوت) الجبار ظهور فتى صغير اسمه (داوود) يحمل في يده مرقاع وحجر .

السلاح النووي صنم، والتسلح خرافة تنتمي الىالعهد القديم، والشعوب قوة لاتقهر والجيوش والانظمة سهل هزيمتها، والاسلحة المتطورة شرك لدولنا الفقيرة، والعالم ينتظر ولادة انسان الفكرة وتوديع أداة القهر، فنتعلم أن أفضل مايستخرج من الانسان باقناعه لابتخويفه ؟!!   ......   

من كان له اذنان للسمع فليسمع .

 

سيكولوجية السيطرة والانصياع

 

(كيف يتغير الانسان بامتلاكه القوة من انسان طيب الى شيطان مريد. من يقرر الطغيان ليست الأخلاق الفردية بل الوسط الاجتماعي. تجربة ستانفورد تثير الذعر عن طبيعة الانسان)

روى لي معتقل سياسي يساري في بلد عربي لبث في السجن مدة 12 عاماً بسبب تورطه في تنظيم سري وكان أفضل حظاً من آخرين فقد قضاها في زنزانة جماعية. وهناك من بقي في الإفرادية أطول بحيث خرج يترنح بين الجنون والعبقرية. قال لي في إحدى الليالي أراد أن يعاقبنا السجَّان لسبب فلم يعثر عليه ولكنه رأى أحد الناس يصلي فلما طلب منه المثول لم يشأ أن يقطع صلاته فكلفه هذا أن يسحبه السجَّان ويرمى به الليالي ذوات العدد في إفرادية مظلمة. كان من يحكم وينفذ هذا نفس الجلاد وبرتبة صغيرة وعنده صلاحية أن يتصرف في مصائر الأفراد كيفما يحلو له بالتعذيب والاذلال.

إن هذه القصة تحكي مرض (علاقات القوة) بين الناس وتتبدى في صورتها العارية في السجن. وكما قال (أتيين لابواسييه) في كتابه (العبودية المختارة عام 1562 م):(يجب أن لانراهن على الطيبة الموجودة في الانسان طالما يمكنه أن يؤذي ومعه مفاتيح القوة). وجميل ماذكره باسكال: ( أي شيء هذا الانسان الذي يجمع بين الحكمة وبالوعة الضلال أن يكون قديسا أو وحشا. في كل فرح حزن. ومع كل حياة مأتم. فمن يحل لنا هذا التناقض؟

 وفي ألمانيا عرض فيلم (التجربة Das Experiment) في شهر مارس من عام 2001 م عن العلاقة بين السجان والمسجون والجلاد والضحية فذعر الناس من رؤية الوحش المختبيء داخل كل منا ينتظر لحظة الانقضاض. كان الفيلم تكرار لتجربة (ستانفورد Stanford) التي طبقت عام 1971 في كاليفورنيا التي كانت الأولى والأخيرة في هذا النوع من تجارب علم النفس بسبب الضجة الهائلة التي أطلقتها في الوسط الأمريكي. ماهي القوة؟ يقول (فيليب زيمباردو Philip Zimbardo) عالم النفس الاجتماعي الأمريكي:(إنها متعة الالهة افروديت). ويقول الغزالي في كتابه الأحياء: (إنها أعظم اللذات قاطبة ولاتقترب منها اللذة الجنسية بحال ولاتقارن). وهي ممارسة الالوهية بدون اسمها، وهي آخر مايخرج من قلوب الصالحين، وصدق الاعرابي حينما وصف متعتها: (ياحبذا الإمارة ولو كانت على الحجارة)، أوعلى الجثث عند السياسيين. ويروى عن (لينين) قوله:(إن موت ثلاثة أرباع الشعب الروسي ليس بشيء إنما المهم أن يصبح الربع الباقي منهم شيوعيين) و(لينين) كان كاتباً محترفاً الف أكثر من 55 كتاباً ولم يمارس القتل قط ولكنه مع التربع على عرش السلطة أرسل الى الموت الملايين؟ أما (ستالين) فكان يعتبر أن موت الانسان قد يكون تراجيديا ولكن موت الملايين مسألة احصائية. وضمن الملف السري للينين الذي كشف عنه النقاب أخيراً وسمح للباحثين بالاطلاع عليه في سرداب تحت الأرض بثلاث أبواب تصمد لضربة نووية تمت قراءة خطابات لينين الأصلية وكيف كانت حياة الناس تنهى في كلمات وجمل قصيرة، فكل انسان لايزيد عن نقطة من حرف.

وعرف أن تلهفه لتحقيق أفكاره قامت على خرافة عجيبة، فمع أن كل من حوله وكل الظروف وكل أفكار (كارل ماركس) كانت تقول إن الشيوعية هي ولادة من آخر مراحل الرأسمالية، وأن المجتمع الروسي متأخر لم يدخل المرحلة الرأسمالية بعد، إلا أن لينين قام بحرق المراحل لوقوعه تحت تأثير نبوءة من سيبريا، وقول لطبيب في سويسرا، أن دماغه معتل ولن يعمر طويلاً؟

 وفعلاً مات لينين عن عمر صغير وأقام شيوعية بنسخة مزورة بالارهاب الأحمر، وحرق المراحل بما فيها حرق شعب بأكمله وإرساله في طوابير لاتنتهي الى الموت. واليوم يحشد الشيوعيون كل المؤمنين به ليزوروا ضريحه فلايتجاوزوا المئات أمام عزم الحكومة السوفيتية على إنهاء خرافة معصوميته وسوق الملايين من الناس زورا في طوابير ذليلة يتبركون برؤيته ويتمسحون بقبره، وكلفة حفظ جسمه مبرداً تعمل له مؤسسة على مدار الساعة بميزانية بالملايين؟

صدق الرسول ص:(خير القبور الدَّرس). عندما يمنح انساناً مفاتيح القوة فإنه يتغير على نحو درامي في تصرفاته ومشيته ولحن قوله بل وحتى توقيعه الشخصي. لقد كانت توقيعات نابوليون أثناء ممارسة السلطة كبيرة واثقة وعند نهايته صغيرة رجراجة.

 وتظهر دراسات علم النفس ثلاث حقائق: كم هو سهل أن يتحول الانسان الطيب العادي مع القوة شيطانا مريدا. وأن هذا يخص كل واحد منا فلايتفلت من هذا القانون أحد. وأن داخل كل منا يجلس فرعون عظيم جاهز لقطع أطراف السحرة وصلبهم في جذوع النخل. وأن قنص السلطة يحرض المزيد مثل نار جهنم تقول هل من مزيد فلا تعرف الشبع أبدا. " كلا إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى " .

كانت الخلاصة التي خرجت بها تجربة (ستانفورد) تدعو للخوف حقاً وأنها (ظاهرة) تتخلل كل المستويات والشرائح الاجتماعية. إن القوة نادراً ماتظهر على شكلها العاري كما يصف ذلك الفيلسوف (برتراند راسل) في كتابه (السلطان) ولاتحتاج أن تظهر على شكل سجن وسجَّانين وهراوات وقضبان بل على شكل ألوان وملابس وشارات.  فبين (مساعد) في الجيش و(لواء) تهتز من تحته الأرض شارات على الكتف. ولون المعطف  الأزرق لعمال الخدمات يكتب مكانة صاحبها أمام أصحاب المعاطف البيضاء من الأطباء معلقة في رقابهم السماعات. بل وحتى بين الأطباء فكلما ثقل جيب المعطف بأدوات الفحص كان صاحبها أقرب أن يكون طبيباً مقيماً فإذا لبس الطبيب معطفاً خالياً إلا من قلم بسيط كان عنوان المهابة: إنه رئيس الأطباء. وإذا جاء (ملف) بلون معين إلى (موظف معين) دارت أعينه كالذي يغشىعليه من الموت: إنه من (المعلم) ومستعجل، ويضخ الادرينالين معها في العروق ضخاً ليرفع ضغط الدم رفعاً فكانت فاتحة لشلل وخرس وسكتة قلبية.

مازلت اذكر انا شخصياً عندما (ضبطني) شرطي في بلد عربي في مخالفة سير. كانوا كمن يلقي القبض على أفاك أثيم عتل بعد ذلك زنيم. لقد كانت متعة لهم بدون حدود في ممارسة القوة. وأتذكر بالمقابل في مدينة (براون شفايج) الألمانية عندما اقتربت مني (شرطية) لتقول لي بلطف وأدب الا ترى أنك مخالف هل تحب أن تدفع عشر ماركات؟  إنها روح تتخلل المشافي والمؤسسات الدينية والدوائر الحكومية والمدارس والشركات بل وحتى ضمن العلاقات الزوجية بين الرجل والمرأة. أليست تابعاً مادياً له؟

إن المرأة يتملكها الخوف الشديد في المجتمع العربي بعد تبخر الجمال وزوال نضارة الشباب والتقدم في السن أن يطلقها زوجها ليلقي بها في الشارع بدون أي ضمانة وحماية أو تعويض عن كل رحلة الحياة. لذا تحاول الاعتماد على رفع مهر المتأخر بدون فائدة، أو تكويم الذهب ما أمكن لعله ينفعها في يومها الأسود إذا زلزلت الأرض زلزالها وانفجر بركان الرجل. إن هذا الوضع طوَّره الغرب وفي الطلاق لاتخرج المرأة خاوية الوفاض صفر اليدين إلا من مهر متأخر دراهم معدودة غير مضمونة بل بنصف ثروة الرجل.

هكذا تبدو تظاهرات القوة وفي كل مجال ومكان. أحياناً على نحو غامض وغالباً في تفصيلات مخجلة ومهينة بسبب نظام (التراتبية) في المجتمع وتقسيم الناس الى اعلى وأسفل.

وفي مجلة (اليونسكو) أظهرت لوحة الغلاف في أحد الأعداد البشر على طبقات تحمل كل طبقة مافوقها. السفلى أعرض وأمتن وفوقها تجلس شريحة مرتاحة أصغر حجماً وأشد قوة. صعوداً حتى القمة، حيث تحكم الأقلية والنخبة. وفي القاع تتمدد أكثرية خانعة خائفة محجوزة في مثلث الرعب تدفع الضرائب عن يد وهم صاغرون.

هكذا صدر المنشور الشيوعي  في مطلع القرن: في القمة (القلة الحاكمة) وبجانبها كلمة (نحن نحكمكم). وتحتها شريحة أعرض من الكهنة ورجال الدين والحقوقيين وبجانبها كلمة (نحن نخدعكم). وأسفل منه الجنود بالحراب وبجانبها كلمة (نحن نقتلكم). وفي الأسفل تماماً العمال والفلاحون وبجانبها كلمة (نحن نطعمكم ونخدمكم) وطبعاً ونحمل كل ثقلكم.

اعتبر الفيلسوف (فردريك نيتشه) :(أنه حيث الحياة هناك الرغبة. ولكنها ليست الرغبة في الحياة. بل الرغبة في امتلاك القوة). ولكن فيلسوف الحداثة (ميشيل فوكو) اعتبر أن كل المجتمع غاطس في حوض من علاقات القوة (فالكل يحارب الكل) في حرب اهلية مبطنة غير معلنة.

وفي هذا الخضم العارم من النزاع وعلاقات القوة فإن الأقوياء يسعون ليس الى بناء علاقات انسانية بل إلى إزالة الطواغيت واستبدالهم بطواغيت جدد، ولذا فإن ماجاء بالقوة أعاد مرض القوة، وهذا سر استعصاء الحياة السياسية في العالم العربي لأنه مبني على علاقات القوة فمن أراد التغيير عمد الى القوة، ومن ملك أراد أن يستمر في أي صورة وتحت أي اسم، طالما لاتوجد قوة تقدر على الاطاحة به. صرح بهذا مسئول قومي وأكده مفكر اسلامي أن الحاكم يملك الرقاب تحت قانون (الغلبة والقهر) فبهذا قال فقهاء العصر العباسي. صدق فالعالم الاسلامي انفك عن احداث العالم وانفصم عن صيروة التاريخ وأمواج المعاصرة واستطاع الغرب فك هذه الاشكالية التي عجز عنها العالم الاسلامي.

إن المواطن العربي اليوم يضع على عينيه نظارة من صنع إيطاليا، ويستخدم التلفون الجوال، ويجري الجراح عملية مرارة بدون شق البطن، كما يستخدم الجندي العربي الصواريخ في الحرب، ولكن الوطن العربي يعجز عن نقل الوضع الدستوري ، وبناء الديموقراطية، والتخلص من الأحكام العرفية، وحكم المماليك البرجية والبحرية، وتجديد أدعية وخطب المستنصر بالله العباسي. وإذا نقل المعاصرة  حملت في توابيت الى العالم العربي.

وهكذا فالمجالس النيابية وظيفتها أن تقول نعم للحاكم. والتعددية ديكور سياسي. والصحافة مثل البيضة المسلوقة أمام ديك أوربي يصيح على السياج، أما حرية التعبير فهي (ردة) أو (خيانة).

نحن نرى اليوم مرض (الطاغوتية) يعم البسيطة بدءً من هبل الأكبر امريكا والشرك الأعظم (الفيتو) وانتهاءً بالديكتاتوريين (الترانزستور) في العالم الثالث، أو عمالقة المال الذين يشترون كل شيء وتمتد امبراطوريتهم عبر كل القارات، فلاتغيب عنها الشمس قط،  بما لم يحلم به هارون الرشيد والملكة فيكتوريا.

حيرت هذه المسألة المفكرين منذ قرون فحاولوا فك لغزها. والسؤال ما الذي يوقظ الشهية الى قوة لاتعرف الشبع؟ كيف يتقرر مصير من يسلك الدرب ليصل إلى القمة؟ وأخيراً كيف تؤثر  متعة القوة في مزاج الأقوياء الجبارين؟ في الواقع تحكمنا علاقات القوة من المهد الى اللحد فمنذ الولادة ومع حرص الوالدين الشديد فقد أظهرت الدراسات النفسية أن الطفل تساء معاملته ما لايقل عن خمسة آلاف مرة في السنة الواحدة. أي أن أحدنا يخرج مشوهاً على كل حال. وحين ولوج المدرسة تبدأ لعبة الشد والجذب من جديد بين استاذ يريد ضبط الصف بالعصا بدون إظهارها أو استعمالها بل الإيحاء بها، فالعصا لمن عصا و (العصا من الجنة)؟ ومن طرف آخر التلميذ الذي يريد لشخصيته الاحترام والنمو في وسط يقتل كل نمو. ومع متوسط العمر تبدأ علاقات القوة تأخذ منحى جديدا فبعد فترة التدريب التي تعتمد الانضباط والدقة والأداء الحسن والإنتاج الغزير تتحول مع مباشرة العمل لصالح من يستولي على مفاتيح القوة. ويصعد إلى القمة ليس أفضلهم بل أخبثهم.

 إنه مازال الطريق طويلاً حتى تبنى حياة انسانية. وعهد الأنبياء لم يبدأ بعد. وقشرة الحضارة رقيقة للغاية لاتزيد عن ستة آلاف سنة أمام رحلة الانسان الذي عاش مع الوحوش يطاردها وتطارده منذ ستة ملايين من السنين. وفي نهاية الحياة مع دخول أرذل العمر تتكلس المفاصل ويتراجع الدماغ بالعته وترتج اليدان بمرض باركنسون، ويجد الكثيرون أنفسهم من جديد في هذه اللحظة التعيسة أسرى رحمة الاخرين وتصدقهم بالمساعدة أو نزق مزاجهم. هذه المشكلة هزت الدكتور (زيمباردو Zimbardo) لفهم ظاهرة الطغيان الانساني هل هي إفراز للوسط الاجتماعي؟ هي تابعة للأخلاق الفردية؟ أو جينات الوراثة عند كل منا. فقام بتجربته الشهيرة التي عرفت بتجربة (ستانفورد) ونشرتها مجلة در شبيجل الألمانية (العدد 11\ 2001) لفهم سيكولوجية (السيطرة والانصياع) والتخدر بـ (أفيون القوة) وكيف يتغير الانسان عندما يضع يده على مفاتيح القوة؟ ومالذي يحول الانسان من رجل عادي بسيط إلى مجرم محترف وقاتل سادي كما يحصل مع الطغاة.

قام (زيمباردو) بانتخاب 24 متطوعاً من من أصل 75 درسهم في اختبارات الذكاء حيث ظهروا أناساً عاديين أسوياء ثم قام بتقسيمهم الى مجموعتين على نحو عشوائي فأصبح فريق منهم (مسجونين) والنصف الثاني سجَّانا. وزيادة في فعالية التجربة قام البوليس بإلقاء القبض عليهم، فعصبوا عيونهم، ثم أودعوا القبو. أما السجَّانون الذين تلقوهم بملابسهم ونظاراتهم السوداء فكانوا يوحون بأنهم شرطة حقيقية، معهم كل  الصلاحيات، وفي أيديهم الهراوات مع رزمة المفاتيح، وكاميرات الفيديو تراقب مع مسجل صوتي في كل زنزانة.

في لحظات وصولهم الأولى تم نزع ملابسهم ومسح أسماءهم حيث تحول كل واحد الى رقم ومع البودرة والحمام تم تنظيفهم من القمل ولبسوا ملابس العنابر القطنية الطويلة المهترئة بدون أي ملابس داخلية وفي أقدامهم وضعت السلاسل. وأما أغطية الرأس فكانت جوارب نسائية. كان من المفروض أن تستمر التجربة 14 يوماً والذي حصل أن أن الوسط تحول الى جو إرهاب خلال ثلاثة ايام،  وفي اليوم السادس دق ناقوس الخطر واضطر (زيمباردو) أن يوقف التجربة تحت ضغط زميلته في العمل أنه لايمكن تبريره أخلاقياً باسم التجارب العلمية؛ فقد تحول من طبيب الى مدير سجن. فأما السجانون فقد وصل بهم الأمر الى درجة حرمان المعتقلين من قضاء حاجاتهم الانسانية فغرقوا في قذاراتهم أو دفع البعض للمارسة اللواط ببعض. واما المعتقلون فكانوا بين من انهار أو اقترب من حافة الجنون أو حمل بمحفة إلى المشفى بحالة اسعافية.

كان كلاً من الجلاد والضحية مريضاً على نحو ما بين الذل والتجبر واحتقار النفس وجنون العظمة. والنتيجة المفزعة التي خرج بها (زيمباردو) أن مايحكم ليس الأخلاق الفردية، بل الوسط الاجتماعي، عندما تحين الفرص للتحكم بالآخرين، ولايوجد من يردع إن هم الا كالوحوش بل هم أضل سبيلا.

كانت الرسالة واضحة في التجربة :(يجب أن نستبدل قناعتنا أن مثل هذا لايمكن أن نفعله. بجملة أصدق: كلنا يمكن أن يفعل أي شيء مع تغير الوسط). وصدق ديكارت حينما قال:(إن أعظم النفوس عندها استعداد أن ترتكب أفظع الرذائل). وكان الانسان أكثر شيء جدلاً.

 

الجهاد والعنف السياسي

 

في رمضان 1424 هـ وباسم الإسلام تم تفجير حي في مدينة الرياض وقتل وجرح العشرات فانتقل وباء المرض الجزائري إلى مكان آخر. ولكن ما يحدث يجب فهمه من خلال تفكيك مفهوم الجهاد. وهو أمر حساس ومن يتناوله إما في جيب السلطة أو من يتربص بها ريب المنون؟

ومن الضروري في البدء تحرير المفاهيم. والعنف الفردي في الدفاع عن النفس كما لو هاجم شقي رجلا فدافع أحدنا عن نفسه لا يدخل في حديثنا. وورد في (الحديث) بما معناه أن من دافع عن نفسه يعتبر شهيدا. ومن قتل دون ماله فهو شهيد. ومن قتل دون عرضه شهيد.

وهذا شيء لا يدخل في العمل السياسي. والدولة حينما تأتي لتعتقل شخصاً فيجب أن لا يدافع عن نفسه. والفرق هنا كبير وجوهري في الدفاع عن النفس ضد لص والدفاع عن النفس بالرشاشات ضد رجال الدولة. فهذا الذي يجب أن يبحث.

وفي هذا المجال توجد (حادثة) و(تعليمات) من السيرة تروي حكاية الفرق بين الدفاع الفردي والسياسي:  فأما الحادثة فيذكر عن صحابي أنه تعرض للإهانة من رجل قرشي فما كان منه إلا أن ضربه (بلحي) بعير فشجه فكان أول دم أهريق في الإسلام. فيرى الشباب ـ كما كتب أحدهم ـ أنها فتوى في ضرب رجل الدولة إذا جاء لإلقاء القبض على أحد المطلوبين أمنياً.

والفرق بين الأمرين كالفرق بين الأرض والسماء. و(تعليمات) الرسول ص كانت واضحة وكان يردد على مسامع أصحابه ""أننا لم نؤمر بقتال" امتثالاً لقوله تعالى ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة" وكان ص  يمر على الصحابة وهم يعذبون فلا يزيد عن القول صبرا آل ياسر إن موعدكم الجنة. ولم يأمرهم بحمل السلاح وذبح الناس من أجل الإسلام بل أمرهم بالصبر على الدعوة وتحمل المحنة ثم الهجرة. ومن الغريب أن هذه الأفكار من الصبر على الأذى ألغيت من ثقافتنا فيقول أئمة العنف إنهم لا يسمحوا لنا بنشر الإسلام. والخلط هنا أن أفكارهم أصبحت تساوي الإسلام وهي لا تزيد عن خيالاتهم عن الإسلام. وقد تبتعد وتقترب بمقدار حدة الفهم. مثل موضوع اللباس واللحية والمشكلة ليس بما غطى الجمجمة من قماش أو انساب من الذقن من شعر بل بما دخل الرأس من أفكار. ولكن بين المسلمين وهذا الفهم سنة ضوئية.

واستراتيجية (الصبر على الأذى) هي من أجل تكوين جيل جديد من البشر يحلون مشاكلهم فيما بين بعضهم بعضا بروح ديموقراطية وليس بالعنف والسيف. فمن اعتاد سفك الدماء لم يتحرر منه. وأسنة الرماح قد تحل المشاكل ولكنها ليست مكاناً مريحاً للجلوس. "ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين"

فهذا الاختلاط يشوش الرؤية على الشباب فيظنوا أنه يجب قتال الدولة الظالمة أو ما يخيل إليهم أنها ظالمة. ومتى أعجبت الحكومة الناس؟ أي حكومة؟

والأمر الأشد خلطا وغبشا في الموضوع هو الغزوات والسرايا التي شنها الرسول ص وتقدر بـ 23 غزوة حضرها بنفسه. وما يزيد عن ثمانين سرية لم يحضرها ص بنفسه. فيظن الشباب أن الجهاد هو ضد الدولة لأن الرسول ص استخدم القوة المسلحة. وهذا يشكل نصف الحقيقة فمتى استعمل القوة وضد من؟ وهنا السؤال الحرج .

ومن يقوم بدراسة (تشريحية) للسيرة يرى بشكل واضح أن هناك مرحلتين منفصلتين غير مختلطتين: (الدعوة) ولم يستخدم فيها السلاح. وقيام (الدولة) ومعها استخدم قوة السلاح.

وفلسفة الإسلام في العهد المكي أنه لم يستخدم القوة لأنه كان ينشر الفكر في محيط سياسي تسيطر فيه قوى قبلية. ولم تكن هناك حكومة مركزية مثل روما تتولى مصائر العباد. كذلك كانت المدن مثل يثرب تتمتع بنوع من الاستقلال السياسي ما يذكر بمدن اليونان القديمة. والرسول ص وحد الجزيرة العربية لأول مرة ضمن منظومة سياسية واحدة. وهو يفسر الآيات الواردة في سورة التوبة عن عدم قبول الشرك السياسي في الجزيرة بعد عامهم هذا.

والإسلام لم يستخدم وسيلة السيف والانقلاب العسكري للسيطرة على المجتمع لقناعته أن التغيير هو نفسي قبل كل شيء. وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. ولذا صبر المؤمنون حتى حصل التحول الاجتماعي وحين نضجت الأمور وانتشر الإسلام في المدينة هاجر الرسول ص إليها. فهذه نقطة حدية يجب استيعابها في بناء الدول والأنظمة السياسية.

وبسبب البيئة المستعصية في مكة فإنه حاول أي الرسول ص جاهدا أن ينشر دعوته في أي مكان آخر وهذا هو السبب في عرض نفسه على القبائل وهو يشبه التجمعات الحزبية هذه الأيام. فعندما تنتشر فكرة بين مجموعات حزبية في مجتمع ما وتتبنى الفكرة (كتلة حرجة) ينقلب المجتمع وهو ما فعله الرسول ص واختلاط هذه الأفكار هو الذي يغذي الفكر العنفي حاليا فيرون الأشياء مقلوبة وليس من بدايتها فيرون صراع الأنظمة مثل معركة بدر وأحد. وقتال الأمريكيين مثل غزوة مؤتة وحملة تبوك. فيضيع هدف الجهاد والمرحلية في تطوره.  

وما يحدث من عنف في المجتمع من التفجيرات وسواها يرجع إلى طبيعة الفكر السائد. وكليات الشريعة والمدارس الشرعية تدرس الفكر الفقهي القديم بدون وعي سياسي. و تتعاون (الجامعة) و(الجامع) على إفراز الفكر العنفي في كل مكان ووقت. فماذا يفعل أحدنا أمام الحديث أنه من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق؟

وهذه الكلمات القليلة كتبتها بالتفصيل في منابر شتى منذ أكثر من عشرين سنة ودعيت لتركيب لقاحات ضد وباء العنف مثل تهيئة اللقاحات ضد شلل الأطفال وجنون البقر وسعار الكلاب. وقلت سابقا أن الدول العربية غير محصنة ضد هذه الأوبئة. ولكن لمن ينتبه أحد لما قلت. لأن الشعوب تتعلم بالعذاب فتزاد جرعة جرعة حتى يرجعوا عن الطريق الغلط.

وأوربا جربت الحروب من كل نوع زوجين من الدينية والقومية والعالمية حتى تابت عن استخدام السلاح والقوة لحل المشاكل. والآن تتحد أوربا بدون حروب تحرير شعبية وجهاد. وسيكون عدد الدول عام 2004م 25 دولة تضم 450 مليونا من الأنام. وهي آية أمام أعيننا نمر عليها ونحن عنها معرضون.

والمهم حاليا هو فك إشكالية النصوص وعلاقتها بالقتال المسلح. وما لم يحدث وعي حاد يفرق الجهاد عن الجريمة فسوف تبقى الانفجارات في طريقها للحدوث وجثث الضحايا تنقل إلى المشافي والقبور.

إن الإصلاح النبوي لم يعتمد القوة المسلحة لتغيير المجتمع داخليا فهذا واضح. والغزوات والسرايا كانت بعد قيام نظام سياسي واضح مميز لرفع الظلم عن العباد. والرسول ص كان مستعدا للدخول في أي حلف مثل الفضول للدفاع عن المظلومين. والجهاد بشقه المسلح ضد الطاغوت هو من أجل تحرير الإنسان من الفتنة. والفتنة أشد من القتل. وهي إخراج الناس من ديارهم وعقائدهم بالقوة المسلحة.

ومنه نفهم أن الجهاد بمعنى القتال المسلح لم يشرع لنشر الدعوة. وليس هناك جهاد دفع وطلب بل له آلية واضحة تظهر مع رؤية بنيوية للقرآن بالمرور على آياته في كل موضع. مثل قصة نبي بني إسرائيل حينما سألوه أن يرسل لهم نبيا يقاتلون معه في سبيل الله فقال لهم "هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا؟" قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا؟" وهنا نضع أيدينا مع أي قوة عادلة في الأرض لتحرير أي إنسان على وجه الأرض من الظلم الواقع عليه. فهذا هو الجهاد الذي دعا له الإسلام. وهو مفهوم إنساني راقي يمكن أن ننطق به في أي منبر عالمي. ويتقبل من الآخرين. ونجد من يضع يده معنا في هذه المشروع العالمي. وهو يشبه الدفاع المدني والإطفائيات لإطفاء الحرائق في الأرض وليس لإشعال الحروب وكلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين.

 

سيكولوجية الدفاع عن النفس

 

سأل الله موسى عن عصاه: وما تلك بيمينك يا موسى؟ قال: هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى. والسؤال ما هي المآرب الأخرى التي لم يفصح عنها؟ قد تكون لإسقاط الثمر وقد تكون (للدفاع عن النفس). وتبقى كلمة مآرب أخرى مفتوحة لاحتمالات كثيرة.

والدفاع عن النفس غريزة من أجل البقاء. ولكن مشكلة الدفاع عن النفس تختلط أحياناً بالهجوم فيصعب تحرير (الدفاع عن النفس) عن (الهجوم على الآخرين). وحسب (هتلر) فإن الهجوم خير وسيلة للدفاع. وحسب الفيلسوف (نيشته) فإن الكل يبني (وزارات دفاع) وهذا يحمل سوء النية المبطنة  بالآخرين. ووزارات الدفاع بنيت في حقيقتها للهجوم. ومن دافع هاجم. فلا يعرف من هاجم ومن هوجم؟ والولع بالألفاظ لانهاية له. وحسب (محمد عنبر) في كتابه (جدلية الحرف) أن كل كلمة تحمل نقيضها. وأجهزة الأمن في عالم العرب هي في حقيقتها أجهزة رعب.

وفي حرب العراق وإيران كان كل طرف يزعم أنه (يدافع) عن نفسه فاستمرت الحرب تحت هذه (الآلية) ثماني سنين عجاف. وعندما أمر (أنتوني إيدن) الجيش البريطاني بالزحف على مصر عام 1956م زعم أنها من أجل إقرار السلام.

وفي القرآن عرض لاستراتيجية مختلفة هي عدم (الدفاع عن النفس). " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي لأقتلك" وهي من آخر ما نزل من القرآن. ولكن هذا المفهوم ملغي عند المسلمين. ويعتبرون أن الآية منسوخة بآية السيف. وهي ليست كذلك. ولو كان من غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.

وغريزة الدفاع عن النفس أصلية في نفس الإنسان. وهي خلقت من أجل المحافظة على العضوية. ولولا الغضب والخوف ما بقينا على قيد الحياة. وهو ما يعرف بالذكاء العاطفي. ومركزها ليس في الدماغ العلوي الكبير بل في أشد المراكز البدائية ظلاما في تلافيف الدماغ. ونشترك مع الحيوانات فيها. فكما تخاف القطط من الكلاب نخاف نحن من الأفاعي والمخابرات.

وكتب (دانييل جولمان) كتابا كاملاً بعنوان الذكاء العاطفي (Emotoinal Intellegence)  توصل فيها إلى خلاصة مثيرة عن (دورة العواطف في المخ). وكما كانت هناك دورة دموية في العروق فهناك دورة عاطفية في المخ تربط لوزة (الاميجدالا) في الدماغ المتوسط مع القشر الدماغي. والذكاء الإنساني المقاس بواسطة (IQ)  غير دقيق ما لم يدخل العنصر العاطفي فيه. ويرى الفيلسوف (برتراند راسل) أن العواطف هي وقود الأفكار. والفكرة لا تعمل بدون طاقة من العاطفة. كما لاتترسخ بدون شحنة من الانفعال. والقرآن قالت عن الآيات أنها تقشعر منها جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم لذكر الله. ولم ينزل القرآن (جملة واحدة) بل على مكث لأنه لم يكن كتاب فلسفة بل تربية. 

والخوف غريزة في النفس أساسية بسبب ارتباطها بالبقاء. ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض. ومنه شرع الجهاد المسلح للدفاع عن المظلومين في الأرض. ولولا ذلك لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا. ولينصرن الله من ينصره.

ويجب الالتفات إلى أن الإنسان حينما ودع (الغابة) ودخل المجتمع انتقلت حمايته الفردية من ذراعه إلى ذراع الدولة. و(وظيفة) الدولة الأساسية هي (توفير الأمن) للأفراد تحت ظلها. ويلعب الفرد في احترامه للقانون والدفاع عنه دور (الشرطي) لحين حضوره. وفي العراق مع انفلات الأمن بعد انهيار نظام الفاشيست البعثي بدأ الناس يقتلون النازيين البعثيين من جنود صدام المصدوم بدافع الثأر وهو أمر متوقع بعد أكثر من ثلاثين سنة من الاضطهاد البعثي المنظم. وفي نهاية 2003م تشكلت محكمة في العراق لمحاكمة مجرمي النظام البعثي السابق. وبذلك يدخل القضاء والقانون إلى الساحة وينتهي الثأر والدكتاتورية على حد سواء. هذا إذا وجرت وفق أصول القضاء المتعارف عليها في العالم من تمكين المجرم من الدفاع عن نفسه وإلا استبدلنا النظام البعثي بأتعس منه مثل الذي يستبدل السل بالإيدز.

وعندما يعترض لص أو شقي طريق أحدنا يريد سلب ماله أو اغتصاب زوجته واستطاع الاتصال بالشرطة لردعه فهو الأفضل لأنه تفعيل الدولة وأدائها وظيفتها الذي من اجله بنيت الدولة. ولكن رجل الدولة ليس موجودا دائماً فيجب عندها ردع اللص أو الشقي والمجرم أو المريض النفسي فيأخذ الفرد مكان رجل الدولة لحين قدوم رجل الدولة الفعلي. وبذا يجب أن يكون المواطن الصالح فردا متمرنا جيدا على الفنون القتالية ويجيد السباحة والرماية ويثب على الخيل وثبا ويتقن قيادة الموتورسيكل والسيارة والقطار والطائرة. وأن يكون رياضيا يتمتع بالقوة العضلية المناسبة. وأن يتدرب على فنون القتال واستعمال الأسلحة البسيطة والمعقدة للدفاع عن النفس بتوجيه ضربات فنية ليس للقضاء على الخصم بل لردعه عن ممارسة الظلم. ثم الإمساك به وتسليمه للقضاء. وهذا الكلام ينفعنا في التفريق بين تشغيل غريزة الدفاع عن النفس التي هي أساسية للبقاء، وبين مجابهة الدولة في العمل السياسي. ففي مجابهة الدولة أو النظام السياسي يجب عدم الدفاع عن النفس بل الصبر على الأذى ولو ضرب الإنسان وسجن. والمواجهة للأوضاع السيئة يجب أن تمشي على ساقين من الصبر والعصيان المدني أو المقاومة السلمية كما فعل غاندي ومن قبله الأنبياء في مواجهة الظلم وتغييره.

وهكذا فهناك حدود بين ثلاث مناطق منها منطقتان واضحتان والثالثة رمادية. أولاً عدم مقاومة الدولة لأنها موجودة بالأصل من أجل حماية الأفراد. وفي حال وجود حكومة جائرة فيجب عدم السكوت عليها بل اتباع مذهب أبي ذر الغفاري بالمواجهة السلمية لها حين لانحراف. وعدم مجابهة القوة المسلحة بالقوة المسلحة لسبب براجماتي وأخلاقي. فهو غير مجدي في وجه دولة تغولت ووضعت يدها على أسلحة عاتية. وهي أخلاقية لأن العنف يزيل العنف ولكنه يستبدل العنف بالعنف. ليزول فرعون ويأتي محله فرعون جديد. ومن وصل إلى الحكم بقوة السلاح كما حصل في السودان مع الترابي طرده العسكر وجلس العسكر محله وكل التاريخ الإسلامي دار حول هذه المأساة.

وبين الدفاع الفردي ضد شقي والعمل الفكري السياسي ضد الحكومة الجائرة فرق كبير. وفي حال عدم وجود الدولة أو غاب عنه رجل الدولة وتعرض أحدنا لهجوم شقي مجرم فيجب أن يردع فهذه هي الروح السلامية.

ويجب أن نستوعب المفهوم السلامي جيدا. وفي اليابان يدربون الناس على القتال الفردي من أجل الدفاع عن النفس ويقولون له في الدرس الأول إنك تتعلم هذه الرياضة ليس من أجل توليد الصراعات بل من أجل إخمادها. ومنه يجب أن يكون الفرد دوما مدربا قوي البدن. والمؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف.

ويروي (دانييل جولمان) في كتابه (الذكاء العاطفي) أن صديقه (تيري روبنسون)  ذهب الى اليابان من أجل تعلم نوع من المصارعة اليابانية المتميزة اسمها (الآيكيدوAikido) ويستطيع صاحبها رمي خصمه بضربة فنية. وكان قد خرج  لتوه من نادي المصارعة بعد تمرين طويل استمر قريب من ثماني ساعات فخرج وعضلاته قد انتفخت بما فيها الكفاية لرمي أي خصم  ففوجئ برجل عملاق مخمور يصعد القطارمعه إلى ضاحية في طوكيو. التفت الرجل السكير وهو يزأر فناول لكمة إلى امرأة بجانبه فطارت هي وطفلها إلى حضن رجلين مسنين سارعا معها إلى الاختفاء في نهاية المقصورة. ثم إنه وهو يترنح أذاق العديد من الجالسين اللكمات وبذيء الكلام البذيء ولم تكن الشرطة حاضرة. هيأ تيري نفسه للصراع وشد على قبضته. وكان يتذكرقول  معلمه : إن المصارعة اليابانية هي فن المصالحة؛ فمن يفكر في القتال ينفصل عن الكون، لأنك لو حاولت السيطرة على غيرك فقد هزمت بالفعل. نحن نتعلم الآيكيدو كي ننهي الصراعات؛ لا كيف نبدأها"  حدق المخمور في وجهه ثم قال: أجنبي حقير وتوتر الجو. وفي هذه اللحظة خرج صوت شديد من كرسي في الخلف إنما في غاية المرح: هيه .. أنت يا صاحبي . التفت السكير فإذا برجل مسن يشير إليه بالاقتراب . حدق السكير وقال عليك اللعنة لماذا أتحدث معك؟  قال بصوت مرح دافئ ماذا شربت أخبرني؟ أجاب: الساكي ولكن ما شأنك أنت؟ قال: حسنا إنها شرابي المفضل أشربه كل ليلة مع زوجتي في الحديقة الخلفية تحت ظلال الزيزفون. انفرجت أسارير السكير وأجاب أنا أحب شجر الزيزفون. قال المسن: يبدو أن عندك زوجة رائعة. عندها انفجر المخمور يبكي بصوت عالي: لقد فقدت كل شيء زوجتي ووظيفتي وبيتي. لقد ماتت زوجتي من فترة قريبة. أنا خجل من نفسي ثم انتحب. قال العجوز لا بأس عليك تعال. ثم أدناه إلى حجره وبدأ يقص عليه أكثر. وعندما غادر تيري القطار كان العملاق يتمدد كالحمل  الوديع في حجر الرجل المسن.

 

آلية عمل المقاومة اللاعنفية

(تفكيك سيكولوجي في كيفية تحرير الارادة من علاقات القوة)

 

يذكر (دانييل جولمان) في كتابه (الذكاء العاطفي) أنه كان متوجهاً الى شارع ماديسون في مدينة نييورك وكان يوماً شديد الحر والرطوبة من أغسطس ووجوه الناس عابسة متجهمة وعندما صعد الى الحافلة استقبله رجل أسمر اللون في منتصف العمر وعلى وجهه ابتسامة دافئة وحياه بود: مرحباً كيف حالك؟ ثم لاحظ أنه يفعل نفس الشيء مع كل من صعد الباص وكانت ملامح الدهشة تبدو على وجه كل راكب ولأن الجميع استغرقهم المزاج الكئيب فلم تحظ تحية السائق بالرد الا من عدد محدود منهم. يقول جولمان ومع تقدم سير الحافلة وسط الزحام الخانق الى وسط المدينة حصل تحول بطيء وسحري فلم يك السائق ينفك عن التعريف بكل محطة مع التعليق اللطيف على الأبنية والناس وإطلاق النكات. لقد تغيرت نفسية الناس فعلاً مع الحديث فلم ينزل أحد إلاّ حيَّاه بود وحب. إن هذه القصة تحكي الأثر المتبادل للعواطف. ويدخل الحب والعنف تحت هذا القانون فالعواطف تولد مثيلاتها والعنف يفجر مزيداً من العنف. وأمام أخبار المذابح المروعة من السودان والجزائر في ديسمبر من عام 2000 للميلاد يجب وضع (ظاهرة العنف) تحت التشريح السيكولوجي. إن مذبحة أم درمان تمت في المسجد وفي شهر رمضان وفي صلاة التراويح زيادة في التقوى وعلى يد فرقة إسلامية. وهي أضعاف مضاعفة ممن يقتل من الفلسطينين يومياً بيد قوات الاحتلال.

(أولاً) : العنف لايحل المشكلات بل يزيدها تعقيداً لإن كل دورة تنتهي بتحطم أحد الطرفين الذي يستعد للجولة القادمة بطاقة أعلى عما دخلها مما يحرض الغالب الى التسلح بأفضل ومهما كانت النتيجة فإن هذه الدورة المجنونة لاتكف عن الاتساع والتدمير وتبادل الأدوار. وهذا يفتح الوعي على فهم الحديث الذي يحكي قصة الرجلين الذين احتكما الى السيف. كان الصحابة يرثون للقتيل ويرونه مظلوما فلا يستوي في الميزان مع القاتل: (هذا القاتل فما بال المقتول؟) فردتهم الحكمة النبوية الى فهم (الآلية النفسية) لولادة الحدث بأنهما كانا ينطلقان من نفس القاعدة (إنه كان حريصاً على قتل صاحبه) وقضية القاتل والمقتول هنا هي من سبق ويمكن لأي طرف أن يأخذ مكان الآخر. ولم يكن نهي المسيح عليه السلام للحواري بطرس أن يغمد سيفه من فراغ:( من اخذ السيف بالسيف يهلك). ويروى عن صلاح الدين الأيوبي أنه في لحظات احتضاره أوصى أولاده قائلاً إياكم والدماء فإن الدماء لاتنام. وفي الدراسة الشيقة التي أجراها المؤرخ البريطاني (توينبي) عن التاريخ ودورات العنف والعنف المضاد أن ظاهرة الحرب بين الدول كانت تأخذ تسلسلاً متتابعاً من الفعل ورد الفعل بحيث أن كل جولة كانت أشد هولاً في إيقاعها من سابقتها. وهذا اللولب الصاعد من تراكب القوة ومضادها أوصل العالم الى حافة الانتحار الكامل لكل الأطراف. وجرت القاعدة أن من يخوض الحرب لايقدم عليها وهو يريد بالانتحار. وتحت هذا الضغط النووي ماتت (مؤسسة الحرب) وتم الاحتفال بدفنها في جنازة خاشعة في باريس مع نهاية الحرب الباردة. ولكن العرب لم ينتبهوا الى هذا التحول التاريخي ومازالوا يشترون السلاح الميت الذي لايضر ولاينفع ويتلمظون لبناء الصنم النووي بعد أن باشر  منتجوه بتفكيكه. إن وضع العرب مع التسلح يشكل نكتة كبيرة ولكنها لاتضحك أحداً.

(ثانياً) : العنف مشحون بالمشاعر السلبية التي تثقل النفس وهي ضارة بالعضوية. ليسأل الانسان جسده في حالات التوتر هل هو بخير؟ العنف يقوم على التوتر الذي يعصر المعدة ويضخ الادرينالين الى الدم فيرفع الضغط ويحبس المثانة الخ. أما مشاعر السلام فهي تغمر الروح بفيض من السعادة الداخلية كما وصفها الشاعر الألماني (جوته) في أبيات (آلاف من الأقواس تتواثب وتتلاقى من النجم الوضيء الى الطين الوضيع تتزاحم وتتدافع لتجد سلامها الأبدي وأمنها الأزلي في الله ).  جاء في كتاب (الأخلاق الى نيقوماخوس) لأرسطو: (أن يغضب الانسان فهذا أمر سهل ولكن أن تغضب من الشخص المناسب وفي الوقت المناسب وللهدف المناسب وبالأسلوب المناسب فليس هذا بالأمر السهل). يحكى أن يابانياً من محاربي الساموراي أراد أن يتحدى أحد الرهبان ليشرح له مفهوم الجنة والنار لكن الراهب لم يوله الاهتمام واستخف به. شعر المحارب أنه أهين فما كان منه الا أن استل سيفه وصاح: لأقتلنك. أجاب الراهب بهدوء: هذا هو الجحيم. هدأ الساموراي وقد روعته الحقيقة حول موجة الغضب التي سيطرت عليه فأعاد السيف الى غمده وانحنى للراهب شاكراً له نفاذ بصيرته فقال الراهب: وهذه هي الجنة.

(ثالثاً) : العنف يقوم على (تحطيم) إرادة الآخر والغاءه  وتصفيته جسدياً بالقتل وهذا يصلح تفسيراً لتعضل ولادة الديموقراطية في العالم العربي. فالشرط الأول لولادة الديموقراطية هو (تحييد العنف). ولنتأمل مايحدث اليوم في أمريكا كيف يحسم خلاف (بوش ـ آل جور) في القضاء وما يحدث عندنا من تزوير الانتخابات وتبديل الدستور وتعطيل القضاء. لقد جمح الخيال ببعض العرب فتطوع بنصح الأمريكيين بتقاسم السلطة خوفاً من اندلاع حرب أهلية. إنه كلام يصلح للنكتة. وإذا كانت الديموقراطيات الغربية أباحت قتل الحاكم الظالم وإزالة الطواغيت بالعنف. فإن أسلوب الأنبياء لايعتمد تغيير (اللاشرعية) باللاشرعية بل (بالشرعية) فهذا هو الفرق بين آلية عمل الديموقراطيات الغربية وأسلوب الأنبياء. وهذه الآلية مازالت غائبة عن الفكر السياسي في العالم العربي ودخلت الأمة في ضباب حالك من الاهتداء الى آلية واضحة لتصحيح المسار. وتحول الناس الى فرق ثلاث: إما مباركة الأوضاع فهذا أفضل شيء ممكن . وإما إزالة الاستبداد بالسيف. وإما الانسحاب الى تكايا الدراويش والانتحار بمسبحة التصوف. يعتمد (العنف) تحطم أحد الارادتين أثناء الصراع أما اللاعنف فيعتمد (التقاء) الأطراف واندماجها. والحقيقة هي في مكان ما في منتصف الطريق وليس هناك من يملك الحقيقة الحقيقية النهائية. ونحن نسبح في اللحظة الواحدة بين الخطأ والصواب ونقترب ونبتعد عن الحقيقة بقدر الصدق والجهد والوسائل المتاحة. وهذا يحرر جواً رائعاً من الحوار ليمتزج الطرفان  في الوصول الى اكتشاف الحقيقة طالما لم تعد ملكاً لأحد بل تولد بالتدريج من خلال تزاوج الأفكار.يقول (ليسنج) من فلاسفة التنوير: (لو أن الله وضع الحقيقة المطلقة في يمناه وجعل الشوق الخالد الى البحث في يسراه ومعها الخطأ لزام لي ثم قال لي اختر بين اليدين إذاً لجثوت ضارعاً أقول يارب أعطني الرغبة الى البحث لأن الحقيقة المطلقة هي لك وحدك).

(رابعاً) : العنف شجرة خبيثة جذورها الكراهية وثمرتها الخوف والجريمة. واللاعنف شجرة مباركة جذورها الحب وثمرتها الأمن والسلام. وأهم مافيها تحرير ارادة الانسان من (علاقات القوة) ومنحه السلام الداخلي العميق والطمأنينة الروحية كما وصفها ابراهيم عليه السلام عندما تذوقها:(فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون). هناك علاقة جدلية بين الكراهية والإكراه والخوف والجريمة وكما يقول عالم النفس السلوكي (سكينر): (أن العواطف تتبادل التأثير فالإحباط يولد العدوانية). وآلية عمل (المشاعر السلبية) أنها تنقلب على صاحبها ولايتحرر من أسرها الا بالانتقال الى مشاعر السلام التي تملأ نفس صاحبها بالغبطة.

(خامساً) : (اللاعنف) ينشط في الجو العلني النظيف المعقم أما (العنف) فلأنه ينوي الغدر والأذية فيتسلح. والتسلح يجب أن يغطس الى الأعماق المظلمة. والظلام يترافق بالعمى فلايمكن لخطط التسلح أن تناقش علناً بل هي أسرار حربية. ومن هنا تعانقت (التنظيمات السرية) والعنف والخوف. ومن هذه الأجواء الملوثة ولدت مصيبة الانقلابات العسكرية في العالم العربي ومعها نموذج الانسان الخائف. والكل يفكر على نفس الطريقة  العنفية في تغيير الأوضاع. مما أحدث استعصاء في الأوضاع السياسية وضعها في ثلاجة تاريخية تجمدت فيها مفاصل الحراك الاجتماعي.

(سادساً) : أخطر مايواجه اعتياد حمل السلاح وجعله لغة تفاهم سهلة وسريعة أن أصحابها يقعون في عشقه وعبادته كصنم جديد من حيث لايشعرون. إن الحوار مزعج وطويل ويحمل مفاجآت لأصحابه في احتمال اكتشاف أخطائهم أما الطلقة فتحل المشاكل بدون كل هذا الصداع. إن المجاهدين في افغانستان حملوا السلاح وطردوا الروس منذ زمن بعيد ولكن غرام القوة والسلطة هدم البلد أضعافاً مضاعفة عما فعله الاجتياح السوفيتي. وإن أخطر مايواجه الانتفاضة الفلسطينية هو طبيعة السلطة والدولة التي سوف تتشكل بعد انحسار اسرائيل. كما أن المقاومة المسلحة في لبنان مهددة بنفس المصير من الغرام بالسلاح الذي نجحت فيه كاسلوب تخاطب مع اليهود. وتشكل خطرا (كمونياً) يمكن أن ينقلب الى تهديد داخلي عند تأزم المشاكل. إن بعض العرب فرحوا بأولادهم الذين التحقوا بالمجاهدين الأفغان في قتالهم ضد الروس كما يحدث الآن في الشيشان ولكن قصة الأفغان العرب دلت أن من تدرب على التفجير هناك بإمكانه أن يفجر العواصم العربية يوماً ما. وفي بداية الأزمة الشيشانية بدأت النساء هناك بممارسة المقاومة المدنية واليوم بعد كل الدمار الذي حصل يطرح السؤال نفسه لو مارس أهل الشيشان المقاومة المدنية ألم يكونوا قد ربحوا المعركة أضعافاً مضاعفة ودخلوا ضمير الجندي الروسي أنه يقاتل في حرب عبثية؟ ألم يكونوا حفظوا بلدهم وولدت الأمة ولادة جديدة محررة من كل أنواع الطغيان الخارجي والداخلي.

 (سابعاً) : قامت مدرسة (علم النفس التحليلي) بتشريح النفس لفهم آليات (اللاوعي) وكيف يتدفق (السلوك) وإننا نعرف اليوم في علم الصحة النفسية أن من يقتل بآلية الدفاع عن النفس يفعلها بسهولة ولكن من يقتل أعزلا مسالما يقع تحت وطأة الذنب أنه قاتل وليس بطلا. وعندما قتل الناس ظلماً في (صبرا وشاتيلا) تحركت مظاهرة من اليهود في اسرائيل تضم 350 ألف انسان ولم يتحرك أحد خلال 17 سنة من كل الحرب الأهلية. فهذه آليات نفسية لانفقهها ولانسخرها. وهو الهدف الذي روته القصة القرآنية عن صراع ابني آدم. فالقاتل لم يعرف طعم الراحة حتى ندم (فأصبح من النادمين) والندم هو أول التوبة والاعتراف أنه أخطأ في تصرفه. وهو يعني بكلمة ثانية أن المقتول أصبح شهيداً لإنه استطاع أن يمنح موقفه الاستمرار بعد موته.

في الواقع كل كلامنا لاقيمة له ولايعني شيئاً مالم يتشكل تيار جماهيري يشق طريقه على نحو ميداني تطبيقي يغير قناعات الناس أن هذا الأسلوب هو خير زكاة واقرب رحما.

يروى عن غاندي أن أعمال العنف عندما اشتدت في كلكتا بين المسلمين والهندوس واحتار السياسيون في ضبطها ذهب فاعتكف هناك في بيت مسلم وأعلن الصيام حتى الموت أو تتوقف أعمال العنف وعندما انزاحت نوبة الجنون عن الناس وتوقف الغوغاء عن القتل جاءه هندوسي يقول إن المسلمين قتلوا ابني قال له غاندي هل أدلك على عمل يدخلك الجنة؟ أن تربي ولدا مسلما قتل والداه وأن تحرص أن ينشأ مسلما كما تمنى له ذلك والداه.

 

جوهر الكفاح السلمي

(ممارسة القوة تعتمد موافقة المحكومين وفي اللحظة التي يرفضون الطاعة يسقط الطاغوت ولاحاجة لقتله)

 

كانت الليلة التي ألقي فيها غاندي من القطار في جنوب أفريقيا حاسمة فقد تجرأ وهو (الملون) على ركب قطار الدرجة الأولى المخصصة للبيض. يذكر غاندي ذلك في كتابه (تجاربي مع الحقيقة) ويقول إنه تكور على نفسه في تلك الليلة يتأمل الظلم الانساني وهو مطوق بالوحدة والغربة والظلام والبرد. وفي هذه اللحظة من الانهيار والحصار النفسي التمع في سماء فكره بريق لحظة العبقرية وتغير الرجل وغيَّر العالم. إن المواقف الصعبة هي التي تشكلنا خلقا من بعد خلق. وهناك من آتاه الله الحكم صبيا وهناك من يبلغ السبعين وهو بعد مراهق. فالعمر ليس بوحدات الزمن بل بامتلاء الخبرة بلحظات المواجهة الساخنة التي تنقش على الأعصاب ذاكرة لاتمحى. ولقد خلقنا الانسان في كبد. وليس غريبا أن القرآن لم ينزل دفعة واحدة على شكل كتاب نظري (جملة واحدة) كما طلب القرشيون بل كان ينقش قوانينه على ألواح القلب. كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا.

طوَّر (غاندي) أسلوب فعال في مقاومة الطغيان وقام بتجاربه الأولى في جنوب أفريقيا كما يفعل أطباء المخابر قبل نقلها الى القارة الهندية فدرب الجماهير على (العصيان المدني) من أجل كسر القانون الظالم بعدم الطاعة له . إنها وصفة رخيصة قليلة التكاليف مباركة النتائج يمكن لكل شرائح الأمة ان تشارك فيها. وتشكل آلية ناجحة للمقاومة ضد أي لون من الطغيان خارجياً كان أم داخلياً لإن الحرية لاتتجزأ. وأهم مافيها ولادة جديدة للأمة محررة من مركب (الاستضعاف ـ الاستكبار). فلايستبدل طاغوت بطاغوت.

والذي حصل في العالم العربي عندما استقل أنه تعرض في كثير من أجزاءه الى طغيان فاق أيام الاستعمار مما يحكي عمق الأزمة الداخلية والقصور السياسي و(القابلية للاستعمار) التي مهدت منذ فترة طويلة لمجيء الاستعمار واستبدل الاستعمار الخارجي بالداخلي لأنه لم يتخلص بعد من مرض القابلية له فهذا هو جوهر الاستعصاء السياسي في العالم العربي ، والصحافة اليوم تعني باخبار زيارات الحاكم أكثر من بؤس الفقراء ، والتعددية الحزبية لاتزيد عن  ديكور سياسي، واختفت المظاهرات العفوية الجماهيرية، وتراجعت حرية الفكر عما كان عليه في الخمسينات. ويزندق أناس لكتب خطتها أيديهم قبل عشرين سنة. لقد أدرك (أتيين دي لابواسيه) منذ عام 1562 م عندما كتب (العبودية المختارة) أن مشكلة الطغيان هي أننا نحن الذين نكونه ونعطيه شرعيته وفي اللحظة التي نكف عن طاعته يسقط بقدمين من صلصال كالفخار ولاحاجة لقتله.

وهي التي اشار إليها ( جين شارب) في كتابه (سياسات اللاعنف NONVIOLENT ACTION) عندما وضع يده على (جوهر اللاعنف) أنه (الإيمان بأن ممارسة القوة تعتمد على موافقة وقبول المحكومين ومن ثم فبمقدور هؤلاء المحكومين السيطرة على قوة خصومهم بل وتدميرها إذا هم سحبوا موافقتهم هذه). يذكر (خالد القشطيني) في كتابه (نحو اللاعنف) عن الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) أنه رفض الاشتراك في الحرب العالمية الأولى بقوله:(إذا استعمل شعب بأسره المقاومة السلبية بإصرار وإرادة عازمة وبنفس القدر من الشجاعة والانضباط اللذين يظهرهما الآن في الحرب فبإمكانها أن تحقق حماية أكبر وأتم لكل ماهو جيد في الحياة العامة مما تستطيع أن تحققه القوات البرية والبحرية وبدون أي من تلك المجازر والخسائر ومشاهد القسوة التي ترتبط بالحرب الحديثة).

إن القرآن ولّد هذا المعنى بتكتيك ثلاثي:

(أولا): المسؤولية في الآخرة فردية. ولن يكون هناك شفاعة أوعدل ولو كان ملء الأرض ذهبا والتابع والمتبوع في خط الطغيان يلعن بعضهم بعضا ومأواهم النار. وهي مشكلة ناقشها القرآن في ثماني مواضع تحت عنوان المستكبرين والمستضعفين.

(ثانياً): بأنه لا أحد له سيطرة على الانسان بما فيها الشيطان (إنه ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين) أي أن (الاستعداد) للظم هو الذي يهيء لكل أنواع الظلم.

و(ثالثاً): إن تدمير الباطل ليس بقتله بل بعدم طاعته أوالتعاون معه. كل مايحتاجه الموضوع هو جماهير تثق بقيادة كارزمائية صادقة وتدريب جيد على ممارسة اللاعنف ورؤية واضحة للأهداف وتكتيكات ناجحة كما فعل (غاندي) من التخلص من الملابس البريطانية باختراع فكرة (المغزل) أو (بمسيرة الملح) لكسر احتكار بريطانيا  له. كل ذلك في جو أخلاقي منتحلي النفس بالصبر على الأذى. وهذا كان زاد الأنبياء (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ماكذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولامبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين). ولقد كان ذلك في متناول الخميني في حربه ضد العراق فكان يمكن أن يأمر مليون انسان من كل الأعمار ومن الجنسين مع حضور صحفي العالم وبنفس أسلوب (الاضرابات والمظاهرات)  بالمقاومة اللاعنفية التي أسقط فيها الشاه أن ينجح في التحدي الجديد.

ولكن التورط في الحرب أضاع  كل شيء في ثماني سنوات عجاف ووضع الغرب أقدامه في ماء باردة وانتعش تجار السلاح ومنتجوه. ودخل الخميني الحقل الذي يفقد فيه السيطرة على الأقدار حيث الأسلحة المتطورة وحيث تحيد قوة الجماهير.

أرسل لي شاب يعبر عن صعوبة استيعابه لفكرة اللاعنف أو الكفاح السلمي ضد الاحتلال الاسرائيلي. لقد كانت الفكرة نصف مستساغة في مقاومة استبداد الأنظمة العربية أما الصراع ضد الصهيونية فلاينفع معها الا مقارعتها بالسلاح؟

قال الشاب إن (فرق الكمون في القفز بين فكرة (العنف) وأخرى (كاللاعنف) دائماً كبيراً مما يولد تيارا شديداً يصعق المتخطي). هذه الإشكالية تجعل البحث مليئاً بالأفخاخ وأنا اعترف أن البحث لم يكن سهلاً حتى تبللور عندي ووصل الى حالة التألق ولذا كان من المناسب أن نفك هذه الاختلاطات بشرح ذو مفاصل يعتمد أدوات بحث معرفية  تستفيد من حزمة من العلوم المعاصرة مثل علوم النفس والاجتماع  والتاريخ والتكنولوجيا والانثروبولوجيا. ولكن هل العنف بيولوجيا أم ثقافة؟

إذا وظفنا علم النفس والفيزيولوجيا (علم الغريزة) لفهم ظاهرة العنف الانساني فهي كما قال (بيير فيو) في كتاب (المجتمع والعنف): (العنف ليس حادثاً عابراً مؤسفاً من حوادث السلوك الإنساني بل هو يندرج في وضع مألوف من التوترات والمجابهات. فالعلاقات الانسانية تقوم على أرضية من الصراع والتناقضات وعلائق القوى. والعنف يكمن فيها كتهديد دائم وهو ينفجر أحياناً كالبركان تحت ضغط نار داخلية لايخمد لهيبها على الإطلاق).

وفي الواقع فالانسان كائن محير تتعايش فيه أنبل التطلعات وغريزة الموت والتدمير. وهو ماأشار إليه (فرويد) في كتابه (أفكار لأزمنة الحروب) عندما كان يراسل آينشتاين بقوله: أن الانسان تتنازعه غريزتان الحياة (الليبديو LIBIDO) والموت (التانتوسTANTOS).

ورأى الفيلسوف  الفرنسي (باسكال) تحت فكرة (النهايتان) هذا التناقض المحير  في اجتماع التوحش والنبل في الانسان وأنه مكان القداسة بنفخة من الله ولكنه بالوعة الضلال ومكان الإجرام ، وقف باسكال في النهاية ليقول من يحل لنا هذا اللغز؟. هناك شيء لاعقلاني داخل الانسان ينفجر معبراً عن نفسه  بالعنف.

ويمثل العنف أحد ثوابت الفعل والتاريخ الانساني. وعندما درس (غاستون بوتول) في معهده الذي أنشأه لدراسة (ظاهرة الحرب) التي تفتك أكثر من كل الأمراض رأى أنه خلال 3500 سنة من التاريخ الانساني كانت كل 13 سنة من الحروب تقابل بسنة سلام واحدة.

أما الماركسية فرأت تجلي العنف أنه شيء طبيعي بسبب (الصراع الطبقي) ودعت الى العنف (الثوري) فكما رأى ريكاردو في قانون (الأجور الحديدي) وعبر عنه (آدم سميث) في كتابه (ثروة الأمم) أن تحديد الأجور والعمال هي سلعة تخضع للعرض والطلب في سوق لاترحم فقد وصل  (مالتوس) في مقالته حول تكاثر السكان (الهندسي) الذي لايوازيه تكاثر الغذاء  (الحسابي) أن الحرب والمجاعات في النهاية هي تحصيل حاصل ولذا فالعنف عنصر أساسي في الاقتصاد الانساني. أما (دارون) فرأى أن صراع البقاء يقوم على العنف والطبيعة تظهر لنا أن القوي يأكل الضعيف.

 ومن هنا أشار (علي الوردي) في كتابه عن (الطبيعة البشرية) أن العقل لايبحث عن الحق كما يزعم بل لايزيد عن آلة لصراع البقاء مثل الأنياب للسبع والقرون للثور والناب للأفعى.

ولكن متى يحدث العنف في الوسط الانساني؟

يبدو أن أكثر الأوضاع التي تفجر الثورات عندما يمس الانسان في ثلاث: (وجوده) و(سلامته) و(كرامته)، أي ممارسة حقوقه الأساسية ذات الطبيعة المدنية أو الاجتماعية أو الفلسفية.

وهناك قانون هام أن من يشعل الثورات ليس اكثر الطبقات الاجتماعية حرماناً، ومن يخلع عنه نير الاستعمار ليس أكثر الشعوب تخلفاً، وإذا هبط الانسان الى مادون عتبة دنيا من الطاقات الجسدية والتطور الثقافي يستسلم لما يحل به من تدهور، هذا إذا تسنى له أن يعي هذا التدهور، أو أن يلاحظ ماينزل به من أشكال البتر، وهذا يكشف تحكم الديكتاتورية بالشعوب الى أجل مسمى. لو حاولنا أن نضع تحديدا واضحاً للعنف واللاعنف فيمكن أن نقول أن نقول أن العنف هو الاستخدام المكثف غير المشروع للقوة وهو طيف من الاحتمالات تبدأ بالكراهية وتمر باللفظة السامة وتنتهي بالعمل الفيزيائي من الضرب باليد وانتهاء بالصاروخ النووي.

أي أن العنف يبدأ من (المشاعر السلبية) ليظهر على تعبيرات الوجه من النظرات الحاقدة ثم يطفو على اللسان باللفظ السيء من سخرية واستخفاف ولمز وشتم ثم يتطور الى العنف الفيزيائي فيستخدم أطراف الصراع أيديهم بالضرب أو يمدون أيديهم الى السلاح بدءً من الحجر وانتهاء بالسلاح النووي. كما يقول عالم النفس التحليلي (سكينر) في كتابه (تكنولوجيا السلوك الانساني) أن (الحروب إنما تبدأ في عقول الناس وأن هناك شيئا انتحاريا في الانسان ربما غريزة الموت يؤدي الى الحروب).

وبالمقابل فإن اللاعنف يختصر بجملة قصيرة هو ان نحقق مانصبو إليه بدون إيذاء الآخرين على أية صورة. وهذا يعني أن عالم اللاعنف هو فضاء معرفي كامل وليس تكتيكاً استسلامياً رخيصاً وبلاهة سياسية.

العنف يتظاهر بأربع سمات: التدمير والتوقف عن الحوار واعتماد العضلات وإسكات العقل وأخيراً انتصار الغريزة.

وله ثلاث نتائج مأساوية: (معنوية) بالخوف واليأس والبؤس. و(مادية) بالأذى والتحطيم والإفساد في الأرض أو كما راهنت الملائكة على آدم فاعتبرته أنه مفسد في الأرض يسفك الدماء (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟). وأخيرا (بنيوية) بالنظم السياسية القاهرة والحرمان الاقتصادي.

ولكن جواب الله أن هذا الكائن أمامه رحلة تطورية اجتماعية أعمق منها بيولوجية وستة آلاف سنة من الحضارة ليست بشيء أمام رحلة الانسان على الأرض منذ خمسة ملايين سنة.

كان الانسان قبل عشرة آلاف سنة يأكل الوحوش والوحوش تفترسه ولكن ماذا ينتظره بعد عشرة آلاف سنة؟ قال الله إني أعلم مالاتعلمون.

 

الأسلوب النبوي في التغيير السياسي

وصفة التخلص من الديكتاتورية وتغيير الدولة بالطرق السلمية

 

في نهاية شهر مايو 2004م قتل في مدينة (الخبر) في السعودية 22 شخصا على يد مجموعة من الشباب المسلحين الذين لاينقصهم الحماس الديني بقدر الوعي والفقه الرشيد. وعندما يمتزج الحماس بالجهل فهي خلطة شديدة التفجير. ولا شيء أخطر من طاقة متفلتة عن مدارها. وقبل 65 مليون سنة قضي على معظم الحياة في الأرض بفعل مذنب شارد في الملكوت أصاب الأرض فكانت قوة ارتطامه بقدر مليون قنبلة هيدروجينية. وكل كتلة يتعلق أثرها ليس بحجمها بل بسرعة صدمها. والرصاصة تقتل ليس من حجمها بل من سرعة اختراقها. ولا يحتاج الإرهاب إلى أكثر من ثلة من الشباب المتهورين في العشرينات الحالمين بأوتوبيا لن توجد قط. وعندما ينفصل الدماغ عن العضلات ليس أمام الجسم إلا حفلات مروعة من التشنج العصبي. وداء الصرع هو فورة من هذا النوع فيغيب الوعي ويبول المريض على نفسه ويتدفق الزبد على  شدقيه فلا يعلم ما حصل له. والتدين قد يكون جنونا وقد يكون عقلا بقدر تمليحه بالوعي أو تسميمه بالتعصب. وقد تخرج نسخ من إسلام ضد الإسلام. وتدين ضد الحياة.

وأي طاقة سواء (الماء) أو (الكهرباء) أو (الجنس) أو (الدين)  تخضع إلى ثلاث معادلات: بين (الحبس) و(التنظيم) و(الانفلات). فالماء يأسن  ويصبح مستنقعات للبعوض مع الركود. وهو يولد الكهرباء بالسدود ويسقي الأرض بانتظام فيحيلها حدائق ذات بهجة للناظرين. وسد مأرب كان جنتان عن اليمين والشمال، وعندما أنفلت فاجأهم السيل العرم فمزقوا كل ممزق وأصبحوا أحاديث. و(الكهرباء) قد تكون صاعقة في السماء كما يمكن حبسها بسلك فلا يستغني عنها إنسان ومؤسسة وبيت. و(الجنس) المسجون يولد الهلوسات والمنفلت يقود إلى الإباحية والمنظم إلى الأسرة السعيدة. والطاقة الروحية غير المرشدة في الدين قد تنتج إرهابيين  مثل الصاعقة التي تحرق وتدمر، كما قد تنتج حضارة تشع بالعلم والتسامح والإنسانية. ورشة ملح إلى الطعام تجعله مستساغا وقبضة منه تجعل النفس تعافه وكذلك التدين والتشدد. والتفكير والتكفير. فكلها طاقات خاضعة لقوانين الله التي قد خلت في عباده.

وأبو حمزة الخارجي اقتحم مكة بالشباب المتحمسين قبل أكثر من ألف عام فوصف أصحابه بأن أحدهم كان يقوم الليل فإذا مر بآية فيها ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم في أذنيه وإذا مر بآية فيها ذكر الجنة بكى شوقا إليها. ولم يعتبر أحد من كل المدارس الإسلامية أن عمل الخوارج كان جهاداً في سبيل الله. كما لم يعتبر أحد أن الدولة الأموية كانت راشدية. وما يحدث في العالم الإسلامي هو صراع الأمويين مع الخوارج. وأجهزة الأمن قد توقف الإرهاب حتى حين ولكنها تفعل مثل حبة الأسبرين مع ارتفاع الحرارة فيظن المريض أنه تعافى والجراثيم تتكاثر بدون توقف.  وما لم يقضى على فكر الإرهاب فإنه سينفجر كل مرة على نحو أشد تدميرا وترويعا. وما تفعله امريكا ضد الإرهاب هو تكرار لقصة الاسكندر مع القرصان. فهذا يغير على الناس بسفينة وذاك ينهب البحار بأسطول. ويتبادل عنف الدولة مع عنف الإفراد أطراف حلقة مشئومة لا تكف عن التوسع.

وفي اليوم الأول من القرن الهجري الجديد الخامس عشر اقتحمت مجموعة الحرم المكي بالسلاح فدشنت هذا القرن بالعنف والدم، وقام الخوارج من قبورهم بعد أن أعادت الحركات الإسلامية المعاصرة إحياء مذهبهم بدون أن تسمي نفسها خوارجا؟ 

ولا أجتمع في منبر أو نقاش أو محطة فضائية منذ ثلاثين سنة إلا ويتعجب القوم من دعوتي إلى أسلوب اللاعنف. وهو أسلوب الأنبياء عليهم السلام. وعندما هجم الجنود على عيسى استل بطرس الحواري السيف  فقطع أذن عبد رئيس الكهنة فصاح به المسيح: "اغمد سيفك يابطرس لأنه مكتوب أن من أخذ السيف بالسيف يهلك". وعندما كان أصحاب النبي ص يطلبون منه أن يسمح لهم بالقتال كان جوابه لم نؤمر بقتال وينزل القرآن بقوله "كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة".

ويظن الناس أن دعوة المسيح تختلف عن محمد ص بشيء وهو خطأ منهجي. فلو بقي محمد في مكة لكان عيسى ولو غادر عيسى عليه السلام إلى المدينة لكان محمدا ص.

والشباب الذين لايفقهون دقة الفروق بين الأشياء يفعلون مثل الجراح الذي يريد ممارسة الجراحة في سوق الخضرة، وكلاً من الجراحة والجزارة تستخدم السكين. ولكن الفرق بين الاثنين مثل العمل في قاعة العمليات المعقمة وساطور القصاب.

 وكل هذه الاختلاطات في الطب أو العذابات في الحياة مردها خلط الأمور ببعض. والحكمة هي وضع الشيء في مكانه. وحبة الأسبرين مفيدة في الصداع ولكنها قد تسبب النزف عند مريض القرحة.

والدفاع عن النفس الفردي غير التغيير الاجتماعي السياسي. ومن تعرض لرجل يريد سلبه أو اغتصاب زوجته دافع عن نفسه ولكن من جاءه رجال الدولة لأنه انتقد الأوضاع وجب عليه ان لا يدافع ويتبنى المقاومة السلمية. وخطة الأنبياء واحدة أن مكان التغيير النفوس وليس الفؤوس. ومقولة إن الله ليزع بالسلطان ما لايزع بالقرآن ليست آية ولا حديثا. 

والدفاع عن النفس مبرر تجاه أي ظلم فردي لحين حضور الدولة. وأن يكون الدفاع كفا للظلم وليس للثأر. وبين المنطقتين منطقة رمادية وهي متى وكيف وضد من يمارس العنف؟ فإذا سمح الناس لأنفسهم في كل حين استخدام القوة المسلحة والعنف الفيزيائي لم يبق قانون ورجع الناس إلى وضع الغابة وهو أمر غير محتمل. والدولة خلقت بالأصل لاحتكار السلاح من أيدي الناس مقابل توفير الأمن لهم. ولكن كما يقول دعاة (الفوضوية Anarchism) أن الدولة مبنية بالأصل على القسر. والإكراه في طبيعته شر وسيء فيجب التخلص من الدولة واستبدالها بمجتمع بدون دولة.

والفوضويون أو الفوضوية لا تعني كما يوحي اسمها باللغة العربية الفوضى (Chaos) وهي مشكلة اللغة العربية التي جمدت تاريخيا ولم تتطور. بل تعني ذلك النظام الذي يقوم على التفاهم والتطوع أكثر من الجبر والإكراه ولم يكن الإكراه خيرا قط. ولا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي. ولو لم تكن (الفوضوية كذا؟) مبدأ سامياً ما اعتنقه فلاسفة كبار مثل تولستوي.

ومشكلة المقاومة المسلحة في وجه الظالمين خطيرة في عواقبها مع أن الديموقراطيات الغربية أباحتها. وعندما تنجح مجموعة مسلحة بالإطاحة بنظام دموي كما فعل كاسترو ضد باتيستا ذاق  طعم السلطة فاسترخى على الكرسي نصف قرن وما زال يخطب كل سنة بمناسبة الثورة مع أنه لم يبق ثورة وثوار بل كاسترو والعصابة كما هو الحال في بقايا الجيوب الستالينية من الأنظمة الثورية في عالم العربان.

وهكذا فإمكانية أن تضع القوة حدا لنفسها يقترب من المستحيل. والمجاهدون الأفغان استطاعوا طرد الاتحاد السوفيتي ولكنهم فشلوا في بناء الديموقراطية.  ووصفة حزب الله لأهل فلسطين باتباع سيرته في لبنان هي وصفة طبيب جاهل مثل قصة حبة الأسبرين. وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون.

والسلطة تميل إلى الفساد والسلطة المطلقة فساد مطلق وحكم العسكر يأس مقيم ونفق للديكتاتورية لا أحد يعلم متى موعد الخروج منه. في حين أن المعارضة إذا تدربت على العصيان المدني تقوم بتدريب نفسي على الانضباط الذاتي، وبناء آليات ديموقرطية من التوازن الداخلي، فإذا وصلت إلى الحكم أفرزت المعارضة وخلقت الجو الصحي السياسي بدون طغيان. في حين أن القوة التي تطيح بقوة تغتصب السلطة وتبني الديكتاتورية.

وبين يدينا نموذجين للتخلص من الاحتلال الخارجي بين أمريكا وكندا ففي الوقت الذي تخلصت أمريكا من الاستعمار البريطاني بالمقاومة المسلحة؛ فإن كندا استقلت بدون قطرة دم ويعيش شعبها بسلام ورخاء ويستقطب المهاجرين من كل فج عميق بمن فيهم الأمريكيين. ويهرب أهل بوسطن إلى مونتريال فتقفز أسعار العقارات.

والخلاصة أن المعارضة تنضج في جو الصراع الفكري ولقد جاءك من نبأ المرسلين. فإما صبروا فنجحوا، أو لجأوا للسلاح فهلكوا بأحد الحدين: بالانتحار في وجه قوة عاتية، أو استبدال الطاغوت بطاغوت جديد فانتهت رسالتهم. كما حصل مع البعثيين فبمجرد أن أمسكوا بالسلطة مات حزب البعث بغير رجعة ودفنت رسالتهم الخالدة؟ ولو نجح المتشددون في مسك زمام الأمور في بلد فعلى العاقل حزم حقائبه للرحيل؟ 

وما نصل إلى بلورته أخيرا أن الدفاع الفردي مشروع ومطلوب في المشاكل الفردية مع وجود هامش لعدم الدفاع عن النفس. ولكن تغيير الدولة يجب أن يتم بالطرق السلمية وعلى النفس الطويل كما شرح ذلك الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد).

وأما عدوان الدول على بعضها البعض فيشرع فيه الجهاد المسلح لردع الظلم إذا لم تنفع أي طريقة أخرى كما حصل مع مسلمي كوسوفو فهو جهاد. وبذلك يتبلور مفهوم الجهاد الإسلامي أنه دعوة لإقامة حلف عالمي لرفع الظلم عن الإنسان أينما كان ومهما دان. وقد  يصبح أداة لتخليص غير المسلم المظلوم من نير حاكم مسلم غاشم ظلوم. وإن  الإنسان لظلوم كفار.

وكما كان في كل مدينة مراكز لإطفاء الحرائق كذلك الحال في موضوع الجهاد فهو ليس لنشر الإسلام بل لدفع الفتنة بتحرير الإنسان من الاضطهاد. والفتنة أشد من القتل. ومفهوم إنساني من هذا النوع يبتعد عنه المسلمون حاليا مسافة سنة ضوئية.  

 

لماذا اخترت اللاعنف ؟

 

أعتبر نفسي أنني ولدت مرتين الأولى بيولوجية والثانية فكرية، فأنا ولدت من رحم أمي بيولوجيا عام 1945م ولكن اكتشافي لعالم اللاعنف تأخر ثلاثين سنة!

الإنسان لا يحتاج أكثر من ساعات لاختراق حدود الجغرافيا ولكن كسر حاجز اللغة يتطلب أعواما، أما اختراق فضاء الثقافة وهضمها والتحول منها وإليها فيتطلب عقوداً. ولكن القفز فوق حاجز العنف لدخول عالم السلام فتحده عقبات يشكل كل منها سداً منيعاً وخنادق سيكولوجية تطبق على العقل بمسلمات يصعب الفكاك من قبضتها.

البعض يرى في مفهوم اللاعنف أنه تعطيل لمفهوم الجهاد في الإسلام والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة؟ وفريق ثان يرى أنه استسلام ذليل وتطويع الإرادة لصالح الخصم، وفريق ثالث يرى فيها نوعا من التنظير والتقعيد الفلسفي لنغمة السلام العربي الإسرائيلي هذه الأيام، فهي موضة للاستهلاك المؤقت.

في الواقع نحن نخطئ ثلاث مرات لأننا لا نحسن فهم وظيفة وآلية الجهاد، فالجهاد بمعنى القتال المسلح له آلية عمل وشروط تحقق فهي أداة العنف تحتكرها دولة راشدية وصلت إلى الحكم برضا الناس تسخرها لمنع الظلم عن الإنسان أينما كان ومهما كان؛ أي دعوة لإقامة حلف عالمي لإنصاف المظلومين ولو كانوا وثنيين ضد حكام مسلمين ظالمين. من المهم إذاً أن نعرف أنها ليست وظيفة فرد يطلق الرصاص على حاكم يرى أنه لا يقيم حكم الله، وهي الدعوة التي تسلح بها الخوارج فقتلوا أعدل من على ظهرها الإمام على كرم الله وجهه؟ كما أنها ليست وظيفة حزب أو جماعة أو طائفة ترى أنها وسيلة لإقامة حكم الله في الأرض، فهذه المصيدة المشؤومة من الغرام بالسلطة وصفها رسول الله (ص) لأبي ذر الغفاري في كلمات مختصرة: إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة.

ونحن لا ندرك السيكولوجية العميقة لتحرير الإنسان من علاقات القوة بتبني اللاعنف، وفي تقديري ثالثاً أن القصور العربي هو الذي مهَََد لبزوغ نجمة داوود، وأن السلام العربي العربي أهم من السلام العربي الإسرائيلي، وفي حرب الخليج الأخيرة نسينا إسرائيل، ولو خسف الله الأرض بإسرائيل لبقي المرض العربي الداخلي. ووجود الخرَاج الصهيوني يمثل اختلاطاً للمرض العربي الأساسي مع الأخذ بعين الاعتبار العلاقة الجدلية بين المرض والاختلاط فهذه فكرة تأسيسية.

بالأصل ولدت في مدينة عجيبة هي القامشلي تزدحم بأخلاط شتى تشكل فسيفساء ساحرة من الأديان والأعراق واللغات واللهجات،  وتعلمت من المؤرخ البريطاني توينبي أن هناك بقايا فرقة مسيحية هي النسطورية مازال أتباعها في الزاوية الشرقية من سوريا وهم ما كنا نعرفهم بالكلدان،  وهكذا نشأت في بيئة ترطن بالعديد من اللغات ما بين عربي وكردي وأرمني وآشوري وسرياني وتركي وشيشاني ، أعيش بين جيران من ست فرق مسيحية على الأقل من كاثوليك وبروتستانت وكلدان وأرمن وأرثوذكس وآشوريين كما أن جدي كان يسكن في حي اليهود؟ وعائلتي التي نشأت فيها تعيش في بقعة جغرافية تتصل بالعراق وتركيا فليس بيننا ونصيبين أقرب مدينة تركية أكثر من فاصل كيلومتر واحد. وأريد أن أعترف أن هذه التعددية الرائعة كانت بكل أسف شرانق وصدف حلزونية مغلقة على نفسها فلا يحاور أحد الآخر ويعتبر من مواضيع (التابو) التطرق إلى مناقشة المسائل المذهبية أو الدينية مما يحمل في تضاعيفها خطراً كمونياً للمستقبل؛ فالتعددية رحمة إن انفتحت على بعضها وتحاورت وهي نقمة إن انزوت وتقوقعت. كانت في الواقع طوائف تنتسب للماضي أكثر من اتصالها بالمستقبل من خلال تراكمات ثقافية حملنا أوزارها من آباء خلفوها لنا.

كنا نشعر بصراع التيارات الفكرية ومحاولة إلقاء الشباك على الطلبة لبناء حلقات من الدراويش الذين يفكر عنهم غيرهم بالنيابة أكثر من بناء العقل النقدي. كان البحث ملحاحاً على صيد الاتباع. كان هذا ديدن وخطة وحماس كل الاتجاهات من إسلامية وعلمانية وقومية وشيوعية.

كنا شباباً صغاراً لا نلمح تجليات العنف الخطيرة وجو التعصب والكراهيات المتبادلة وكانت المساجلات الفكرية تحمل شكلاً ثلاثياً من التبرير والتفنيد المضاد والدفاع حتى الرمق الأخير في خندق فكري لا خروج منه. كل الحقيقة يملكها طرف واحد ولا يملك الآخر إلا الضلال المبين. المتدين يرى القومي ملحداً زنديقاً، والقومي يرى المتدين رجعياً، والشيوعي يضحك على الاثنين لأنه يملك (النظرية النهائية) لفهم قوانين التاريخ، وكل في فلك واحد من الثقافة يسبحون.

في جو من هذا النوع  يبقى الحظ هو الذي يقرر مصير الأفراد في أي شبكة يتم اصطيادهم، وبطن أي حوت يلجون، فإما أن يكون من قوم يونس فينجون؛ أو يبقى  أحدهم في بطنها إلى يوم يبعثون.

يقول (الغزالي) عن نفسه في كتابه (المنقذ من الضلال) أنه منذ نعومة أظفاره كان يغلي في صدره التعطش إلى إدراك الحقائق فكان يطلع على كل شيء ليرى سبب إصرار الملحد وتعنت الفاسق وتبحر الفيلسوف وشطحات الباطني؛ فنذر نفسه كرادار ماسح لكشف المدارس الفكرية في عصره بين فرق المتكلمين والفلاسفة وطوائف الباطنية والمتصوفة.

أتذكر نفسي وعشقي للمعرفة العلمية وغرامي بالاطلاع المنوع الذي مازال لا يعرف الارتواء فقرأت كماً خيالياً من الكتب والروايات والقصص، وكانت صلاتي خلف الإمام محرضاً لي أن أنهمك في الاطلاع على القرآن فشدتني بلاغته وعميق أسراره وحكمته البالغة فبدأت أحفظ فيه. ولم يكن مشروعاً إتمام حفظه ولكن جاذبيته كانت أقوى فأتممت دراسته وحفظه في ثماني سنوات مباركات، ثم أضفت إلى ذلك دراسة الشريعة بجانب دراسة الطب كي أسير في ضربة واحدة أوقيانوس الحداثة وأركيولوجيا التراث.  وهكذا أخذ الإيمان بقاعدته الأخلاقية يعطيني معنى للحياة. ومن هذا المزيج من تعانق العلم والإيمان كتبت معظم ما كتبت حتى اليوم لعل أهمه كتاب الذي حمل عنوان (سيكولوجية العنف واستراتيجية العمل السلمي) وقبل انفجار العنف في سوريا تقدمت بكتابي عن (ضرورة النقد الذاتي للحركات الإسلامية) في محاولة تدارك الوقائع بتعميم لقاح ضد تشنجات العنف ونوبات الجنون فيه، ولكن يبدو أن الأمم لا تتعلم إلا كما يقول القرآن (حتى يذوقوا العذاب الأليم).

في نهاية المرحلة الثانوية قبل ما يزيد عن 35 سنة كنت قد اطلعت على ألوان منوعة من الفكر واستهوانا الفكر الذي كان شائعاً آنذاك يحاول تأسيس فكر إسلامي معاصر ودخول الحداثة بدون أن يدخله. ولكنني اكتشفت أنه يفرض ثالوثاً مقدساً من الإكراهات: اعتبار الديموقراطية هرطقة، والانفتاح على الثقافة العالمية خطراً على العقيدة، بالإضافة إلى الإيمان بسرية العمل، وعدم الوضوح في نقطة العنف، وهذه النقطة الأخيرة في تقديري لم تحل عقدتها حتى الآن في الفكر الإسلامي المعاصر في معظم شرائحه ويحمل تهديداً كمونياً للانفجار في المستقبل، ما أعتبره شخصياً خطأًً كروموسومياً في تكوين جماعات العمل الإسلامي السياسي في إحياء نشط لفكر الخوارج، وهكذا فالخوارج ينامون مستريحة عظامهم في القبور فقد تم إحياء مذهبهم من جديد بدون عنوانه؟ نحن أمام عمل سري يقوده (إمام مستور) في تنظيم مجهول القيادة، بسبب بسيط هو التعانق المشؤوم والزواج اللاشرعي بين السرية والعنف، فطالما كان الهدف الحكم وليس (تغيير ما بالنفوس) حسب الوصفة القرآنية، وطالما كان السيف أصدق أنباء من الكتب فإن الباب مفتوح على مصراعيه لكل الكوارث. لم يكن أمامي إذا إلا توديع هذا النمط من الثقافة الانغلاقية التي هي أقرب للعنصرية بأننا أبناء الله وأحباؤه والانزواء عن الاستفادة من الفكر العالمي وكل العطاء الثقافي المعاصر تحت إشارة استفهام بأثقل من جبل؟

وهنا آتي إلى النقلة النوعية ما سميتها (الولادة الجديدة) وكانت من مصدرين الأول داعية اللاعنف (جودت سعيد) والثانية بلقائي ولمدة شهر كامل بالمفكر الجزائري (مالك بن نبي) عام 1971 م الذي أكرمنا بزيارته إلى دمشق قبل وفاته.

إن الدخول إلى عالم اللاعنف لا يعني حكماً فقهياً أو كتاباً للاطلاع البارد، بل هو في الحقيقة انقلاب كامل في الشخصية، ودخول جغرافيا من نوع مختلف المناخ، أو الهبوط على ظهر كوكب تنقلب فيه محاور الزمن والجاذبية.

لا يعني الدخول إلى عالم (اللاعنف) حكماً فقهياً أو كتاباً للاطلاع البارد؛ بل هو في الحقيقة انقلاب كامل في أبعاد الشخصية، ودخول جغرافيا من نوع مختلف المناخ، أو الهبوط على ظهر كوكب تنقلب فيه محاور الزمن والجاذبية.

والفترة القصيرة قبل مغادرتي الوطن للاختصاص في ألمانيا كانت انقلابية وحاسمة بفعل القاعدة الفكرية الجديدة التي صعدت فوقها من الانفتاح على الثقافة الكونية ومدارس الفكر المتعددة؛ فذهبت للتعرف على روح الحضارة الغربية خارج إطار (المقابر) و ( المزابل) على حد مصطلحات بني نبي، عندما يرجع أبناؤنا من الغرب في صورتين لا تحلان المشكلة الحضارية إما مهنيون غرقوا في نفق الاختصاص بما هو أشد من شفط ثقب أسود، أو منحلون فقدوا الصلة بروح الأمة ، ولم ينتبهوا إلى أسرار الفعالية وأسرار التفوق الخفية عندهم ، بأكثر من جو المخابر والبارات.

يرى (مالك بن نبي) أن الحضارة هي (توليفة) بين الإنسان والتراب والوقت كمعادلة تركيب تفعلها (شرارة الروح) كما تفعل الكهرباء في دمج الهيدروجين والأوكسجين لولادة ذرة الماء على شكل نوعي مختلف للغازات التي انطلقت منها،  وبمثل الدين أو أي فكر نوعي انقلابي شرارة اجتماعية من هذا النوع.  من جهة أخرى يعتبر (الإنسان) كائن اجتماعي يصنعه المجتمع على مستويين فهو أولاً يجعله بشراً سوياً ينطق ويحسن التصرف ويندمج في السلوك العام، وتتباين المجتمعات ثانياً في إنتاج إنسان فعَال يعرف قيمة الوقت والنظام والجمال من إنسان (كلُ كسول) يلوح بمسبحته، يدخن سيجاراً بدون استئذان من حوله، ينتظر السماء أن تغير أوضاعه، ويرى بن نبي ثالثاً أن الحضارة هي مجتمع الضمانات في مستويين أولاً تأمين الجنة الفيزيولوجية الخماسية من (شراب وطعام ومسكن ولباس وجنس) ومجتمع يأمن فيه الإنسان على نفسه أو بتعبير القرآن أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.  ويرى بن نبي أن المجتمع العربي خرج عن (سكة) الحضارة منذ ابن خلدون فلا ضمانات فيزيولوجية أو اجتماعية فالإنسان عندنا جاهل وجائع وخائف. وفي النقطة الأخيرة أحب أن أشير إلى ثلاث كوارث رسمت قدر الأمة العربية والإسلامية تاريخياً. فأولها مصادرة البيت الأموي الحياة الراشدية لندخل مرحلة الدولة البيزنطية ونحكم بالسيف الأموي ونؤله القوة وتختفي آلية نقل السلطة السلمي، والكارثة الثانية بتأميم العقل ومصادرته ؛ حيث اختفى التيار العقلاني، وطحنت المعتزلة، وتم إغلاق باب الاجتهاد، وحبس ابن رشد حتى الموت لتستفيد منه لاحقاً مدرسة بادوا في إيطاليا في إطلاق أول أشعة التنوير العقلاني في أوربا.

وثالثة الأثافي ما عبر عنها ابن خلدون مع مطلع القرن الخامس عشر للميلاد، عندما بدأت بوصلة العالم تغير إحداثياتها إلى أقطاب مغناطيسية غربية فقال :

( وكأن لسان الكون نادى بالخمول فبادر بالاستجابة والله وارث الأرض وما عليها) ففي عام 1492 حصلت لنا كارثتان في منظر متناقض بين سقوط غرناطة، وطرد آخر وجود عربي في شبه الجزيرة الايبرية، ورسوا مراكب كولمبس على الأرض الجديدة.

مع ازدياد الضغط العسكري العثماني على أوربا لم يبق إلا أن تلتجئ وظهرها إلى محيط الظلمات خلف أعمدة هرقل فقامت بتطويق الفريسة الإسلامية على حد تعبير (توينبي) بثلاث محاور الأول روسي شمالي والثاني مشرقي برتغالي يطوق كل السواحل  حتى اليابان وثالثها قاصمة الظهر في رحلة إلى الغرب للوصول إلى الشرق يقودها متعصب اسمه كريستوبال كولون لا يعرف حتى موته أنه اكتشف أمريكا ولا يسميها هو. ومع امتلاك البحار والمضائق المائية ووضع اليد على أربع قارات بما هو أكبر من سطح القمر وآلاف الجزر الغنية والثروة العالمية ومعها وضع الغرب في جيبه ثمانية قروش من كل 9,5 قرشاً، ولم تعد الحملات الصليبية مفلسة يقودها ملوك أوربيون أميون من نموذج ريتشارد قلب الأسد، يحرقون الكتب والقطط والساحرات في الساحات العامة، ويعالجون السعال الديكي بلبن الحمير على حد تعبير (النيهوم) بل بنوا لأنفسهم بيتاً على ظهر القمر وترسو الباثفايندر على سطح المريخ يندلق من جوفها عربة (السوجرنير) الأنيقة تعاين سطح كوكب اله الحرب (مارس) بعيون ثلاثية الأبعاد وتشم أكاسيد الحديد لتقول : لا المس مس أرنب ولا الريح ريح زرنب؟!

وهكذا تم عبور المحيطات بسفن وخرائط عربية واحتل الأسبان العالم الجديد بالحصان العربي، وكتبت الحضارة بالدم من الشمال إلى اليمين وتلك الأيام نداولها بين الناس.

كانت رحلتي إلى ألمانيا صخرية منهكة ولكنها ممتعة فألمانيا بلد لا يخلو من العنصرية ولكنها أرض حاملي جوائز نوبل، هي مستنقع الإباحية تمتد من فلينسبورغ حتى الغابة السوداء ولكنها صيدلية العالم، هي مكان ولادة فلسفة هيجل بقوانين الجدل الثلاثية وموطن الموسيقيين الكبار من نموذج بيتهوفن وموتزار.

حاولت أن أفهم ألمانيا من ملاحظاتي المكثفة وتمتين لغتي لشق الطريق للثقافة الجرمانية، وهي تتطلب استنفارا غير عادي في جو طبي جراحي أبعد ما يكون عن الثقافة في مناوبات مع العمليات طوال الليل فهي دماء حتى مطلع الفجر.

وهناك تألمت لأمرين الحرب الأهلية اللبنانية ثم حوادث العنف التي انفجرت عندنا في سوريا، وكنت أرى سحبها القاتمة عبر الأفق أنها قادمة لا يجليها لوقتها إلا هو؛ بسبب بسيط كما يقول عالم النفس السلوكي سكينر في كتابة (تكنولوجيا السلوك الإنساني)  " الحروب هي برمجة في الرؤؤس قبل استخدام الفؤوس"...

عندما دخلت ألمانيا كنت قد وصلت لدرجة البللورة في مشكلة الثالوث المشؤوم  ( التنظيم- السرية- العنف) وكنت قد وضحت هذا في كتاباتي عام 1973 ثم جاء كتابي في النقد الذاتي (ضرورة النقد الذاتي للحركات الإسلامية) احذر من وباء العنف.

ولكن كيف وصلت إلى هذه القناعة وعلى أي نحو تبلورت فهذه فكرة من المهم إلقاء الضوء عليها وأرجو أن يعتبر كلامي هذا نوع من (اللقاح) الواجب تعميمه وهو الذي قلته في محطة (اقرأ) الفضائية عندما طلب مني الإدلاء برأيي في مشكلة العنف الجزائري، في رسالة موجهة للمؤسسات الإسلامية مثل الأزهر وسواه، وإلى كل المفكرين والمربين والمعنيين بالعد الإسلامي والحركات الإسلامية، كما كتبت بحثاً هاماً في العنف الجزائري نشرته مجلة العربي العام 98 عدد أغسطس. وهذا الكلام أوجهه للمسؤولين في كل قطر عربي كي يدرك خطورة هذه القضية أن هناك فرق كبير بين ضبط الأوضاع (الأمنية) وبين حل المشكلة فالمريض الذي ترتفع حرارته بسبب جراثيم حمى التيفية قد تستطيع إنزال حرارته بالأسبرين ولكن المرض قد ينفجر بشكل اختلاط مروع لاحقا إما في صورة إنثقاب معوي أو ما هو أدهى وأمر بالتهاب العضلة القلبية؟!

أقول إن ثقافتنا ما زالت تعمل فيها جراثيم العنف بكل ضرورة وما لم ننزل إلى الحوض الثقافي لتغيير الخرائط الذهنية في معالجة المشاكل فإننا مقبلون على كوارث ؟؟ وأنني أرى وميض الجمر من كومة الرماد، والتاريخ يقص علينا ما فيه من مزدجر، ومأساة البلقان وأفغانستان والصومال والجزائر والعراق فيها من العظة ما يكفي لم كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

العنف يحمل حزمة من الأمراض اللعينة فهو أولاً لا يحل المشكلات بل يولدها ويزيدها تعقيداً في حلقة شيطانية مفرغة عكوسة تزداد اتساعاً وضراوة، والعنف لا يحرر الإنسان بل يأسره لعبودية القوة، والعنف ثالثاً يعتمد الجهاز العضلي ويلغي الجهاز العصبي العقلي، وبالعنف لا يمكن بناء أي ديمقراطية، والعنف وصل إلى نفق مسدود ويودعه العالم اليوم كأسلوب فاشل، اللاعنف هو أسلوب الأنبياء في صناعة المجتمع؛ فهذه ستة أفكار تأسيسية مفصلية.

ألقت الأجهزة الأمنية في يوم القبض على بدوي بتهمة اشتراكه بتنظيم سري فبدأ المحقق يسأله ما هو تنظيمك؟ من نظمت؟  ما هي أسماء خليتك الحزبية؟ فأجاب بعفوية: (يا طويل العمر لا بالله نحن نبغي نزيحكم ونقعد محلكم؟؟!!)

إن كثيرين مازالوا يتلمظون للتغيير بطريقة الإعرابي، والقرآن يرى ببساطة أن مفتاح التغيير ليس بتغيير الحاكم أو السلطة بل بتغيير ما بالنفوس (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) وهذا أمر يتطلب المزيد من التوضيح.

العنف يحمل حزمة من الأمراض المفزعة فهو أولاً لا يحل المشكلات بل يولدها ويزيدها تعقيداً في حلقة شيطانية مفرغة عكوسة تزداد اتساعاً وضراوة، والعنف لا يحرر الإنسان بل يأسره لعبودية القوة، والعنف ثالثاً يعتمد الجهاز العضلي ويلغي الجهاز العصبي العقلي، وبالعنف لا يمكن بناء أي ديمقراطية، والعنف وصل إلى نفق مسدود ويودعه العالم اليوم كأسلوب فاشل، واللاعنف هو أسلوب الأنبياء في صناعة المجتمع، فهذه ستة أفكار تأسيسية مفصلية.

يطرح القرآن فلسفة متفردة تشق الطريق إلى نظرية كوبرنيكوس اجتماعية فالظلم الذي يقع على الإنسان هو بالدرجة الأولى بما (كسبت يداه) فلا الله يظلم الناس ولا أحد يظلمهم ولا الشيطان له عليهم سلطان بل أنفسهم يظلمون، وهذا يقود إلى مفتاح اجتماعي أكثر أهمية أن عبادة الحكام وتأليههم هي من صناعة الشعوب وخرس المثقفين أكثر من سحر سدنة معبدة الحاكم فعند صنمه البخور يحرقون؟

إذا كان كوبرنيكوس قد وصل إلى قلب مفهوم دوران الشمس والأرض بمفهوم عكوس فإن فكرة جدلية (الأمة والسلطان) من هذا النوع  بأن الأمة شمس والحاكم كوكب أ:ثر من تحرريه توجه الجهد إلى الحراثة في الحقل الخصب بتغيير نظام الفكر، والتخلص من أسر فكرة الحكم والسياسة، ليس لأن هذا أريح- وهو أريح على كل حال من مناطحة الجدران والتصدي لخرقة مصارع الثيران_ ولكن كل الخطر وبعثرة الجهد هو الدوران في كهوف مظلمة عن مفتاح يرى كل الحل بالوصفة السحرية بتغيير الحاكم أو السلطة وأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

ويعطينا التاريخ شواهد فاقعة على هذا المنطق الأحمق غير المجدي الذي سقطت الأمة في قاع بئره في قصة يوسف جديدة بدون سيارة تنقذه وبدون أمل في النجاة حتى جاء الحل من خلف أعمدة هرقل من بحر الظلمات؟! فعندما استأصل العباسيون الأمويين فلم يتركوا على ظهرها أموياً بمن فيهم الرضع، ونبشوا قبور الخلفاء وهي رميم فجلدوهم، وفرشوا السجاد على جثث المحتضرين وهم يأكلون ويطربون لم يتقدموا بحل المشكلة إلا بإلغاء كل الحلول؟ ولم يخرج من بينهم عمر بن عبد العزيز؛ بل خلفاء سمل العسكريون الأتراك عيونهم وتركوهم يموتون في حر الشمس، ليختم فصل مسرحيتهم بأفظع منظر عندما يخرج خليفة حاسر الرأس سمين يقابل جزار من حجم هولاكو يناشده الله في الحريم، وينهي حياته في كيس مربوط ترفسه أقدام المغول حتى الموت، وتدك بغداد إلى الأرض السابعة في ظل رعب مغولي لا يزال برج في مفاصلنا التاريخية، وعندما فتح السلطان العثماني القسطنطينية كان يدشن أعجب أمرين أحفلهما بالخطأ، فقتل أخاه الرضيع بفتوى دينية من شيخ الإسلام وبآية من القرآن وكانت عرفاً يجري؛ فقتل مراد الخامس خمسة من اخوته دفعة واحدة مع توليه السلطة؟  وكان أول ما يفعله الخليفة أن يقتل جميع إخوته حتى لا تكون (فتنة) و (الفتنة أشد من القتل) فيجب أن يستشري القتل في العائلة المالكة قبل الأمة ؟! في فهم منكوس ممسوخ لكلمة الله في السبع المثاني من القرآن العظيم، والخطأ الأخر بتحويل كنيسة  (أياصوفيا) إلى مسجد متنكراً لعمل ابن الخطاب الذي رفض الصلاة في كنيسة القيامة حتى لا تكون مبرراً لتحويلها إلى مسجد.

يعتمد العنف من الناحية السيكولوجية كسر وإلغاء الأخر وطحن إرادة الخصم لتبقى في نهاية الصراع إرادة واحدة في الميدان، واللاعنف يحافظ على الطرفين ليخرجا بإرادة واحدة مشتركة.

يولد العنف ويستنبت من حوض (الكراهية) كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، مهما علت فروعها في السماء؛ بسبب ضعف الجذور، لتسقط في النهاية تحت ثقلها الخاص بعطالة ذاتية.

جذور العنف الكراهية وثمرتها الخوف والجريمة، وفي مذبحة مدرسة (ليتلتون) في ولاية كولورادو الأمريكية عرف عن الشاب الذي قتل 11 من زملاءه واثنين من المدرسين أنه كان يكره الناس، وعندما فجر رأس الزنجي بالطلقة فاندلق الدماغ ضحك مع رفيقه ساخراً معلقاً: ولكنه يحمل دماغاً أبيضاً!

لنحلل المشكلة أكثر هل إذا حطمنا الآخر- والحرب تعتبر التجلي الأعظم لظاهرة العنف- هل نحل المشكلة أو نتقدم باتجاه الحل؟

في الواقع إن الغالب والمغلوب يخرجان في نهاية المعركة باختلال نفسي مرضي غير سوي يتطلب آليات موازنة جديدة بفعل قوانين طبيعية بحتة.

يخرج الغالب بشعورين: متعة (جانكيزخان) العظمى المريضة بالتحطيم الأعظم للخصم، مع الخوف من انتقام المهزوم جنباً إلى جنب، فعندما سأل (جنكيزخان) أحد أدوات إجرامه المدعو (بو أورشو) كما جاء في كتاب (رينيه غروسيه) عن قاهر العالم، ما هي أعظم فرحة ينعم بها الإنسان في حياته؟ أجاب: أن تذهب للصيد في يوم ربيع يعلو معصمك باز معلم وأنت ممتط ظهر جواد مطهم والطريدة تسقط أمامك!! أجاب الجبار جنكيزخان: (كلا يا صديقي بل هي أن تنزل الهزيمة بأعدائك وتسوقهم أمامك كالقطيع يذرف ذووهم الدمع عليهم جزافاً وأن تركب خيولهم وتسحق بناتهم وزوجاتهم؟!)

ولكن جدلية المغلوب تفرض عليه أن يستعد للمعركة المقبلة لاستعادة توازنه النفسي بأدوات أشد ضراوة وأمضى، وكما يقول المؤرخ توينبي أن وتيرة الحرب في التاريخ كانت على شكل جولات كل جرعة منها تلاها ما هو أشد هولاً وأعظم نكرا، حتى وصل الإنسان إلى امتلاك سقف القوة بالسلاح النووي وهذا الحديث سنرجع له لاحقاً.

العنف والعنف المضاد حلقة معيبة ليس لها نهاية وهي كالنار التي تأكل بعضها بعضاً، والسلام شجرة مباركة تؤتي أوكلها كل حين بأذن ربها جذورها الحب وثمرتها الأمن فلا أعظم من (أمن) السلام وهو ما عبر عن إبراهيم ( وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به سلطاناً فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون).

طرح الأستاذ جودت سعيد عام 1965 كتاباً إلى السوق بعنوان "مذهب ابن آدم الأول" يهدف فيه إلى (الإعلان وليس الإقناع) فاتهمه الكثير أنه مفسد للفكر الإسلامي أو أنه عميل للسلطة؛ لأنه رأى أن تغير الواقع الاجتماعي لا يتم بالعنف والاغتيالات وقتل الحكام وتدبير الانقلابات العسكرية فالوضع (اللاشرعي) لا يزال بـ (اللاشرعية) ولا يقضي على الخوارج بخوارج جدد، بل بالتزام اللاعنف ومن طرف واحد، كما فعل ابن آدم الأول: (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين)...

ضحك الكثيرون من جودت سعيد واعتبروه في أحسن الأحوال ساذجاً مغفلا ووصفه أحدهم أنه لا يزيد عن (درويش) ينقصه الوعي، ولكن الأمة لو انتبهت إلى هذا الفكر الإختراقي المبكر السابق لأوانه لحقنت الكثير من الدماء؟! وهذا يشي وبسخرية معنى أن فرداً يوزن أحيانا بعقله ما هو أثقل من حماس قبيلة!!

وهوجم أخيرا بكتاب كامل وصف تحت عنوان (النزعة المادية) في الإسلام بأنه (غاندوي ماسوني معتزلي باطني جهمي قدري دارويني يدعو إلى الزندقة ولإلحاد) وأكرمني الكاتب بأن (خالص جلبي) أعمى الله قلبه (كذا؟) حين شبه الشيوعيين بآية قرآنية في اللحظات الصعبة عندما حوصر البلاشفة الحمر بطوق عسكري آسر من الروس البيض؛ بأنهم عانوا لحظات نفسية رهيبة (عندما جاءوهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وزلزلوا زلزالا شديدا) كما يصف القرآن وضع حصار الخندق في مقارنة نفسية لكل مجموعة بشرية تطوق حتى الخناق.

في قناعتي أن القانون الإنساني لا علاقة له بشيعة وسنة وشيوعيين ومسلمين بل به ناظمه الخاص، فالثورة الإيرانية (اللاعنفية) لم يفهمها المسلمون حتى اليوم ويعتبرونها في أحسن الحالات حالة نادرة (خوارقية) ولكنها في حقيقتها لا تزيد عن سنة الله في خلقه، كذلك كان نجاح الشيوعيين، أو نجاح (ماوتسي تونج) في مسيرته الكبرى يخسر كل جيشه في رحلة على الأقدام لمسافة عشرة آلاف ميل يحصدون فيها من الأعداء على جانبي الطريق ليبقى منهم في النهاية أربعة آلاف يبني بهم زعيمهم في الشمال جمهورية صغيرة كانت خميرة للصين الحديثة، مذكرا بقصة طالوت وجالوت وداوود من القرآن الكريم.

العنف لايحرر الانسان بل يورطه في مصيدة عبادة القوة وأخطر مرض يصاب به المجتمع هو تشققه الى طبقات عندما يتحول الى شريحة ضيقة من المستكبرين وقاعدة واسعة من المستضعَفين، وهما في الحقيقة من طينة ثقافية واحدة كما في الفيلم فكل صوره الملونة الزاهية تستخرج من شريط أسود أصلي. بكلمة ثانية مستنقع المستضعفين هو وسط  ولادة بعوض المستكبرين، وبمصطلحات علم النفس فكل سادي هو مازوخي وبالعكس وكل مستكبِر هو مستضعَف في أعماقه وكل مستضعَف هو ( كمونياً ) مشروع جاهز للاستكبار ينتظر شروط بروزه وولادته . يظهر هذا واضحاً في علاقة الرجل بالمرأة، والضابط بفارق نجمة على الكتف والشرطي بسائق السيارة، والملفت للنظر أن قلب طرفي العلاقة بتغيير البدلة والوظيفة والشخص يكرر المنظر البئيس.

مهمة الأنبياء كانت تبني اللاعنف بكسر رافعة القوة وتحرير الانسان من علاقاتها المريضة وبناء المجتمع التوحيدي الديموقراطي والتخلص من طبقة أصحاب الامتيازات والتمتع بكلمة السواء التي هي أصل الرياضـيات والفيزياء

( تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ) والشفاء من المرض الفرعوني ( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا) . إن فرعون ليس شخصاً تاريخياً مثل ( بيبي ) الثاني بل هي مجموعة صفات يمكن أن يقع في شراكها أي حاكم بدون فرامل معارضة . لاغرابة أن نزلت سورة كاملة باسم رجل ( مؤمن ) يعترض.

 ويعتمد العنف ( ثالثاً ) على العضلات والأسلحة والإكراه ، أما اللاعنف فهو أسلوب الحوار والإقناع أي حديث العقل وتغيير السلوك يتم بالنزول الى لوحة مفاتيح الوعي وهذا تغيير داخلي محض وطبيعة المادة العصبية في الدماغ الانساني أنه يتعامل بالفكرة وأفضل شروط إنتاجه كما يقول عالم النفس ( براين تريسي ) بعيداً عن التوتر فلايقتحم المعضلات كما نضرب المسمار لاختراق الجدار . من هنا نفهم عظمة دعوة القرآن لبناء مجتمع ( اللاإكراه ) وسخافة فكرة قتل الانسان من أجل آراءه كبدعة طورتها ثقافة مريضة تصفي الفكر تدريجياً وتفضي بالأمة الى الشلل التام والخرس المطبق .

اللاعنف لايعني الاستسلام بل ينمي الإرادة في الاتجاه الصحي فهي تدعو الى الحوار ولاتبيت الحقد والنفاق ، وطالما تم تهميش الكراهية نكون قد اقتلعنا الجذور الأصلية لشجرة العنف ، واللاعنفي لايخاف ولايتراجع الا بالاقتناع ، وأهمية هذا المحافظة على إرادتي الصراع تدخلان الحوار والاندماج وليس تحطيم الارادة الأخرى .

الكراهية نفي للآخر وضمور في العلاقات مشحونة بمشاعر سلبية وانكفاء على الذات ، والحب اعتراف به وتواصل معه في مشاعر رومانسية ترتقي بالمشاعر تخلع معنى على الحياة ، وأجمل أشكاله الزواج بحب بين كائنين ينجبان نسلاً سعيداً تنمو به البشرية بقوة حياة عظمى من الحي الذي لايموت فتوكل عليه.

 (رابعاً) : العنف والديموقراطية مثل الماء فلايمتزجان بل نطفيء النار بالماء ؛ فلايمكن بناء مجتمع ديموقراطي تعددي طالما آمنا بالعنف أسلوباً للتغيير ومن مزايا مجتمع (اللاإكراه) الحقوق الديموقراطية من حرية الاعتقاد والتعبير والاجتماع عليه سلمياً، وعندما لاتتحرك أي مظاهرة في أي عاصمة عربية فسببها وباء العنف من جماهير غير منضبطة وقيادات سياسية مرعوبة .

يجب أن نبني مجتمعاً نسمح فيه للجميع بالتعبير والاجتماع والنشاط والدعاية لما يعتقدون ؛ فلاخوف من التفكير، ولاحدود للبحث العلمي، ولايُكفَّر أو يُخوَّن المخالف في الرأي ، وأخيراً وهو الاهم أن لايستباح دم الانسان من أجل آراءه اعتناقاً وتغييراً فهذه أربع قواعد مفصلية في بناء مستقبل عربي رشيد ، ولنتفق على شيء واحد : يمنع رفع السلاح واستخدام القوة لفرض الآراء دخولا وخروجا ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .

 (خامساً): العنف وصل اليوم الى نفق مسدود وينقسم العالم اليوم الى شريحتين الأولى تملك القوة والتكنولوجيا ومؤسسات البحث العلمي ومصارف المال ولاتستخدم القوة، ونرى صعود دولتين لاتملكان قوة السلاح الى مصاف الدول العظمى من نموذج ألمانيا واليابان، ونرى سقوطاً مريعاً لأعظم دولة (إكراه) في القرن العشرين ممثلاً في الاتحاد السوفيتي مع امتلاكه كل القنابل النووية بسقوط داخلي محض دون أي هجوم خارجي ، وتتحد اليوم أوربا تحت شعار ألمانيا مثل الجميع وليس ألمانيا فوق الجميع بدون فتوحات هتلر ونابليون.  وفي المقابل نرى شريحة ترى حل مشكلاتها بالقوة من نموذج افغانستان واريتريا والحبشة تشتري سلاحها من مصادر خارجية ترهن مصيرها لعالم الكبار ؛ فهي تستطيع البدء بشن الحرب ولكن خاتمتها بيد الكبار الذين يموِّلون السلاح فينصرون فريقاً على آخر بما يخدم مصالحهم أكثر من الفرقاء المتنازعين، بما هو أشد سخرية من قصة (القرد والقطين وقطعة الجبنة) فعندما احتكم القطان المتنازعان على قطعة الجبن المسروقة عند قرد يزعم نزاهة القضاء كان يطفف المكيال في كل مرة ويعدل القبان بقضمة شرهة من القطعة الثقيلة في الكفة الهابطة حتى ختم العملية بالتهام آخر قطعة جزاء أتعابه أمام حسرة القطط ؛ فهذا هو اليوم عالم الكبار الذي يعيق نمو العالم وهم يعلمون ، وفي حرب الخليج الأولى كان يموِّل الطرفين ثلاثون دولة لحرب استمرت ثماني سنوات عجاف ماهو أطول من الحرب الكونية مات فيها مليون شاب وإهدر 400 مليار دولار وغرقت الدول النفطية وهي المرفهة بالديون والعجز المالي ، وفي معركة ( كربلاء خمسة ) مات 65 ألف شاب بين ايراني وعراقي ، وفي الوقت الذي يفكِّك الغرب السلاح النووي ويحاول التخلص من سموم البلوتونيوم وينهي الحرب الباردة في جنازة خاشعة في باريس ترتج الأرض في بلوشستان بالزلزال النووي في بلد يجلب العار بانقلاب عسكري في عالم يستقبل الألفية الثالثة يودع السلاح والعسكر،  ويبدأ العرب في شن الحرب الباردة بين قبائلهم الجديدة ، ويتلمظون لبناء الصنم النووي بعد أن علمهم القرآن منذ أكثر من ألف عام أن الأصنام لاتضر ولاتنفع .

نحن نذهب للحج في اليوم العشرين من ذي الحجة وقد طويت الخيام وانتهى الطواف ؟!

جاء في تصريح أكبر استراتيجي نووي أمريكي (لي بتلر) في مقابلة أجرتها معه مجلة ( دير شبيجل الألمانية 32 \ 1998) أنه كان المسؤول عن خطط الهجوم لمسح 12500 مركز حيوي من ظهر الأرض خلال عشرين دقيقة بخطأ لايزيد عن 15 متر عن الهدف ، أنهم أنتجوا سبعين ألف رأس نووي بكلفة ستة آلاف مليار دولار بـ 116 نموذجاً محمولة على  65 نظام دفع صاروخي قال : لقد كنا نترنح كالسكارى وماكنا بسكارى نضرب رؤوسنا بطلقة الروليت الروسية ولكننا نجونا بإعجوبة ؟!

 (سادساً) اللاعنف هو أسلوب الأنبياء في صناعة المجتمع فالمسيح عليه السلام  كان صارماً  عندما تقدم رجال الاستخبارات الرومانية لإلقاء القبض عليه واستل بطرس سيفه ليدافع عنه قال : لماذا تخرجون علي كأنني لص فأنا أدرِّس كل يوم في المعبد ؟! ثم توجه الى بطرس مذكراً بالقانون الاجتماعي : اغمد سيفك لإنه مكتوب أن من أخذ السيف بالسيف يهلك ، وبنى الرسول محمد ص مجتمعه بدون أن يغتال أحداً من المشركين ليستقبل في المدينة من المجتمع الوليد بفرقة موسيقية كاملة تعزف طلع البدر علينا بنور جديد يضيء العقول ويحرر الانسان . نحن اليوم نتخذ نموذج الثورة البلشفية والفرنسية أو سيف جنكيزخان المعقوف مثلاً أعلى لبناء دولة اسلامية وننسى النموذج النبوي في التغيير ، كما نخلط بين قيام الدولة ووظيفة الدولة ؛ فالدولة هي المؤسسة السياسية التي يفرزها مجتمع ، وغزوات النبي ومعاركه كانت في إطار دولة ولدت (شرعياً) برضى الناس تمارس تحرير الانسان من الظلم مهما دان وأينما كان . إنني أشكر الكثيرين الذين اكرموني بتعميم لقاح السلم الى مناطق التسمم بالعنف، وأنا اشق طريقي في البحر الثقافي بعصا الفكر أقلد موسى ينفلق له البحر فكان كل فرق كالطود العظيم بين مجهر السلطة والمتشددين الاسلاميين على حد سواء ، ولكنني أشعر اليوم بتحرر بدون حدود وطاقة نفسية تزداد تألقاً واطمئناناً كل يوم فأفكار السلم تعطي حصانة رائعة لإنها  لاتضر أحداً وينتفع منها الجميع. وحتى يمكن للانسان أن يكسر حاجز التقليد فإن هذا يتطلب إعادة برمجة العقل، وماينتظر العالم العربي هو هذه الولادة الجديدة بالانفصال عن رحم ثقافة الآباء .